Al Jazirah NewsPaper Saturday  28/03/2009 G Issue 13330
السبت 01 ربيع الثاني 1430   العدد  13330
لما هو آت
هو الخلط...!
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

يبدو أن هناك خلطاً شديداً بين ما يمكن وما لا يمكن، وبين ما يصح وما لا يصح، وبين ما يجب وما لا يجب، وبين ما قبل حد النار وما بعد حد الاحتراق بها، في الشأن العام في المجتمع بمؤسساته, بعد أن انطلق الناس يقولون كل ما يعتقدون فيه الصواب، ويتصرفون وفق أي قناعة بما يرون أنه حق مطلق لهم؛ فوجدناهم قد تجاوزوا قبل أن يؤسسوا مواقفهم على سلامة، وخلطوا الحابل بالنابل، ونسوا أن مجتمع الإنسان الحرية فيه مكفولة بفطرة التشريع، ما لم تتخط حدود الآخر في ظلم, بسلب أو اعتداء أو انتهاك، بوسيلة الصوت أو القلم، وبسلوك اليد أو اللسان.

** ولقد بدأ هذا الخلط حين لم تتضح الحدود في المدارس بين حق الطالب في التوجيه وبين واجب المعلم فيه؛ فذهب مَن يلوم المعلم على تربيته، ناقداً لأسلوب تنفيذها فلا عقاب. ولأن التربية السليمة لا تتم بلا عقاب فقد انفرط العقد في يد الأولياء، ولم يستطع المعلمون أن يعيدوا لضْمه؛ فتسيّب الأبناء، واختل الميزان بكفتي ما للمعلم للمعلم، وما للطالب للطالب، وكأنهما على خط تناظر ومساواة..

وفي التربية هناك كبير له حق التوقير والاقتداء، وهناك صغير عليه واجب أداء ذلك، كما هناك صغير له حق الرحمة والاحتضان، وهناك كبير عليه واجب الرحمة والاحتواء..

كما هناك خلط لم تتضح حدوده وقيوده، فيما لله تعالى فيه من قول فصل، وما على الخلق نحوه من تنفيذ وامتثال، والقول الرباني الفصل ليس للإنسان إلا إجراؤه عملياً في حياته؛ فلا تنصل منه ولا تراجع بشأنه ولا نقاش في وجوده من عدمه، وليس له من اعتراض إلا إن خرج تنفيذه عما جاء به قول الله تعالى. وفي المجتمع هناك خلط كبير في شأن القناعة بوجود رجال للحسبة ممن تأهلوا بعلم كتاب الله وعرفوا مسالك تطبيق رسوله العظيم في العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ذلك لوجود مجتهدين يخطئون التصرف؛ فأجرى الناس في الكل ألسنتهم وسلطوا أقلامهم، ونادوا بتحييد أدوارهم، وهم إن يعلموا أن أمة لا تنهى عن منكر ولا تأمر بمعروف يكون مآلها الضياع والخيبات والفساد والرذيلة؛ لأن الله تعالى جعل الإنسان على فطرة: جزء منها خير، والآخر شر؛ فهدى المقتدين لفطرة الخير، وأوقف المنصرفين لهوى الشر فيهم..

فالمقتدون يسندهم الموجهون للمعروف والناهون لزلاتهم البشرية عن المنكر، والمنصرفون موكلون لشياطينهم، تلك سنة الله في خلقه.. لكنهم خلطوا فذهبوا يتضافرون ضدهم.. على أن الخلط تسيّد في ضوء عدم تطبيق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة للخير والمعروف بروية ولين، وبتوجيه وصبر؛ فما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - فظاً ولا هتاكاً.. بل كان داعياً بالحسنى، حريصاً على الستر..

وفي الطبيعة، هناك إنسان، إذا ما علم عرف، وإذا ما جهل ضل؛ فإذا رُغِّبَ تعلم؛ فعرف؛ فامتنع عن شيطانه، وإذا رُهِّبَ خلط بعنفوانه, كما هناك حكيم يوصل خبرته بحكمة فيبلغ، بينما بغيرها لن يصل.

** ولئن كان يعلم الآباء أن المعلمين في المدارس هم آباء وأمهات؛ فيواصلونهم ويتكاتفون معهم، ويرضون بهم مشاركين، لما استفحل الشق بين آبنائهم وبين معلميهم؛ لأنهم خلطوا الأدوار، وجهلوا الطريقة.. فجعلوا حريتهم مطلقة في تعطيل أهم أدوار المعلمين المربين، والخاسر الأول هم الأبناء.

** ولئن كان يعلم الناس أن الحسبة هي مجاديف المجتمع البشري كلما ضعفت عزيمته وانحرفت مسيرتها، شحذتها للإبحار نحو الوجهة الصحيحة، لضعف أصيل في النفس مهما تعلمت ورقيت، بل آمنت واتقت، فلا كمال إلا لله، وكل ابن آدم خطاء، كذلك لئن كان يحرص كل ذي حسبة على أن يكون مقيداً بالاقتداء بما كان عليه سيد ذوي الأخلاق خاتم الأنبياء عليه الصلاة والتسليم.. لما خلط أولئك وهؤلاء بين ما لهؤلاء وما على أولئك، وما عليهما معاً، أو لهما...

** فالمدرسة الصغرى في التعليم والمؤسسة الكبرى في المجتمع هما امتداد للإنسان كيف يتكون، ومن ثم كيف يكون..؟ تلك بنود مسجلة يبدو أنها قد خُلطت أوراقُها كثيراً.. وآن للناس أن تدرك مآل خلط الأوراق..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد