Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/03/2009 G Issue 13326
الثلاثاء 27 ربيع الأول 1430   العدد  13326
لما هو آت
حزمة ضوء ليوم الشعر العالمي..!
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

يفهم من تظاهرة اليوم الموحد في السنة, أنّ الإنسان سيلتقي نظيره الإنسان على مرافئ النهر حيث الغرف منه، والرفد إليه.., ولأنه يوم الشعر العالمي، فقد استرجعت مقامَ الشعر عند العرب، كيف هو ديوانهم، عنه عُرفت مناسباتهم، ومفاخرهم، وبطولاتهم وأيامهم، وشجعانهم وصعاليكهم، وأنسابهم ومواقفهم، أنفتهم وضعة المتسلقين منهم، سادتهم والتابعون لهم، شيمهم ومثالبهم، ما الذي يوقد حوافر خيولهم, ويشعل مواقد نيرانهم ؟، وما الذي يحلق بهم في لحظة نبضة مارقة, أو نظرة وامقة..,

الشعر كان سيد الفرح، إنْ وُلد شاعر تعزّزت به القبيلة، وإنْ سقط شاعر خسرت في ميدانها، والشعر درس لغوي كما هو درس قيَمي, لا يتفوّه به إلاّ ذو مكارم لذلك ينطلق لصرخته الوالي، وتدك بإيقاده الحوافر، وتتنازل على كلماته السيوف، وتتباهى الجباه بوضاءة ديباجاته, ومراميه، ولشدة تأثيره، كان للعرب في أول عهدهم بالإسلام أن يتحللوا من التحيز له، وأن يفرغوا صدورهم من إيقاعه, لتشغر بالوافد الجديد، المنقذ من ضلالة الحياة، ولتتفكر في الرسالة العظيمة للأحياء، (فالشعراء يتبعهم الغاوون).. لأنهم في: (كل وادٍ يهيمون)., بينما الجديد الذي قيدهم هو أمر منزه القيم، لا ينبغي أن يتجاوز معه الشاعر هذه القيم، فإن كان يتغزّل في حريرة ويصف مفاتنها، فله الآن أن يتوقف، فقد كف الدين بموازين أخلاقه عن الهتك، وحض على الالتزام, فلا دعاية لخمر، ولا تمتع بمغرياتها، ولا مفاخرة بنسب، ولا تبذل في عنفوان، ولا ترغيب في منكر، ولا جهل لحمية، فالأخلاق سيدة كل أمر، ولأنّ الإنسان جُبل بفطرة الانزياح لفضاء الفضاء الذي حوله, فإنه لا يقوى على سطوة الشعر، لذا قُيد الشعر بالقيم المرتبطة بالدين عند المسلمين.. لكن بقي الشاعر هو الشاعر تتجاذبه إغواءات البوح وإن كابد، وتأخذه أجنحة التحليق وإن استوقف لسانه.., ثم، مع تطور الحياة على مر العقود, تطوّر الشعر بتطور وجه الحياة في كل مرحلة منها، ومكان، وطرأت أشكال أخرى لقصيدة العربي، إذ كما ترك الخيام واعتمر البيوت، وكما اقتطع الصحراء بالأسوار، وأنشأ القرية، والريف، والديرة، والمدينة, وتداخلت عناصره، وصُنفت مطالبه، وتنوعت احتياجاته، واتسعت معارفه، وتلونت خبراته، وانفتح على أفكار جديدة، ومارس تجارب عديدة، توالدت لديه أشكال تعبير جديدة، فمزج بعضها بالإضافة لما عنده، وتحلّل عن كثير من أشكال ما عنده، وأبتكر بها ما استجد له، فتبدّلت القصيدة على لسانه، شكلاً ومضموناً ولغة وأفكاراً, إذ تغيرت أغراض الشعر عنده، باندثار شعر الميدان، والحمية، والمفاخرة، ونهوض قضايا الإنسان المتعلّقة بحياته وممارسات بقائه، فكلما عاش أكثر اتسعت وتجددت غربته، ووحدته، وعذاباته وتخيلاته ومطامحه، وعواطفه وآلامه، ومفاهيمه ومصطلحاته، وكأنّ المدنية الحديثة قد أقامت أسوارها بين فطرة الإنسان الشاعر, وعجينتها فيه، وأسقطت بينه وبين السلام حواجز من قلق.., فكثيراً ما لجأ الشاعر العربي تائهاً بين ما هو منه، وبين ما هو من عند غيره، حتى مسخ هويته، ونزل بقصيده في دار غير داره, تعج بغير لونه, وتطفو في غير بحره، ولا تدور في ملكوت حياته، فاغترب كثيراً عن كل ما يصنع له وحدته، وتميزه الإبداعي، ومع ذلك فالتجارب الشعرية العربية مزيج من كل صنف، تأخذك في مركب, له عند كل وجهة سارية، ويوجه كل سارية ربان..، هذا المزيج وليد طبيعي لمفرزات ما بعد الانسلاخ عن القصيدة العربية الأولى، التي زخرت بقيم وقتها، وصمدت بأبنيتها، وخلال المراحل العديدة في الأزمنة الكثيرة ما بعدها، أخذت قصيدة الشاعر العربي تتلوّن وتتشكّل، تغترب وتتوه، تنهض وتسقط، تقوى وتضعف، في عمارها بدءاً بالفكرة، والمضمون، وانتهاءً للغة.., حتى وجدنا الكثرة الهائلة من الشعر الذي ليس شعراً، ومن الشعر الذي يحاول أن يكون شعراً، ومن القليل الذي سيثبت للريح، لا تنزعه عن سدّة الشمس مواسم ولا أنواء, هو على قلّته باق بومضته..

لكن اليوم، وفي مواسم الشعر ما الذي نقرأ ونسمع ؟ عن المجددين الذين يحاربهم الكبار لمجرّد أنهم يمارسون عطاءاتهم وفق مفاهيم وتجارب زمنهم ؟ ويجعلونهم يلهثون أو يتمرّدون ؟ دون تقدير لعوامل التغيير، ومفاصل التغيير التي جاءت على كل مناحي الحياة، وأساليبها ووسائل التعبير التي لا يخرج عنها الشعر, بل يقع في قلبها، أم عمّن يحيك لنفسه أردية من ثوب الشمس ليتجلّى الفائز الأوحد ؟.. بينما يضرب بقيم الصدق والأمانة والوضوح عرض الوفاء؟ أم لتلك القيم المهدرة في تراشقهم دفاعاً عن فرديتهم...؟, أم لأصوات الطبول وأبخرة الجوقات تسير من خلف ثلل الصحب ونخب الأصدقاء..؟ والشعر في كل ذلك مخبوءٌ بين قراطيس حامليه، إما هزيلاً لا يجد من يقوّمه ويرشد فيه، وإما محلقاً قد انتصب له من يكسر أجنحته ويغلق على رفاتها بين يديه، وإما طليقاً إنْ قلّبت النظر فيه بادرك استفهام: ما الذي يقولون ؟ وفي أي وادٍ يهيمون ؟ وبأي لغة يعبرون ؟ ونحو أي سارية يتجهون..؟.. وبدل أن يبقى للشعر مهابة التوثيق لقيم النفس الشفيفة والروح المثلى، والجمال الخلقي، ومُثُل الخير والعطاء والتأهيل لحياة تتناكبها القضايا المصيرية, وتتنازعها الشظايا البالغة عروقها وشرايينها..، نجده مداراً لغروب شمس كل ذلك معا..

فالمرسى المرسى للشعر العربي في يوم تظاهر العالم من حول طاولات الشعر بحثاً في رسالته وقيمه وأدواره، وبحث العرب عن مكان الصغير الذي بدّدته هالات الكبار، وعن صوت الشاعر الذي لجمته متاريس الخواء..

فذهبنا نبحث عن القيم التي يبعثها سؤال: ما الذي يفعله الشعراء العرب بالشعر ؟ في زمن تقبل كل جديد وبقيت صومعة الشعر أرضاً لا وثيقة لها, يتنازع حولها الشعراء في يومهم.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد