تمعن في واقعنا العربي المعاصر ستلحظ وجود قاسم مشترك بين شعوبه المتنوعة، فهي شعوب (مستهلكة) للمنتجات المادية في غياب فلسفة الإنتاج الحقيقية القائمة على فك أسرار الصناعة، كما أنها شعوب (متلقية) للدعايات.....
..... الإعلامية لعدم وجود مراكز بحث ودراسات استراتيجية تعتمد المعلومات الصحيحة وتستثمرها في تنميتها الاقتصادية وقضاياها السياسية وعلاقاتها الإنسانية. هذا الخلل الحضاري انتبه له الإيرانيون بدهاء الفرس المعهود وعملوا على استثماره سياسياً واستغلاله إعلامياً، بما يعزز نفوذهم في المنطقة العربية لدعم مشروعهم مقابل المشروع الأمريكي في ظل غياب المشروع العربي، وهو حلم فارسي قديم، فشاه إيران كان يطمح إلى أن يكون (شرطي) المنطقة الأوحد وحارس المصالح الغربية فيها، والخميني كان يهدف إلى تصدير ثورته إلى دول الجوار العربي، بيد أن إيران اليوم لا تريد الصدام مع النظام العربي بشكل (رسمي)، إنما تعمل على اختراق الوعي العربي بشكل (شعبي)، عبر ثلاثة محاور رئيسة تعمل من خلالها، وهي (التباهي بالصناعة الإيرانية)، و(التنادي بالوحدة الإسلامية)، و(التعاطي مع المذهبية الشيعية)، فالإيرانيون قطعوا مسافات مهمة في المجالين الصناعي والتقني، فبعد صناعة السيارات والغواصات والصواريخ طويلة المدى، استطاعت إيران إطلاق القمر الصناعي (أمل) في فبراير الماضي، فرغم تقليل الغرب من أهميته إلا أنه عكس صورة إيجابية لصالح طهران في العقلية العربية التي بدأت تتأثر ب(الدعاية الإيرانية) التي نجحت في وضع (التفوق الصناعي الإيراني) إيجابياً في وعي الشعوب العربية مقابل (الضعف الصناعي العربي)، خاصةً وهذه الشعوب تشاهد المناورات السياسية التي تقوم بها إيران مع الغرب حول الملف النووي الإيراني، بينما لم تتمكن دولة عربية واحدة من فتح هذا الملف بعد تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1981م من قبل إسرائيل.
الدعاية الإيرانية في مجال الصناعة المتقدمة التي يفتقر لها الوطن العربي جاءت عاملاً مساعداً في تمكين الإيرانيين من اللعب بسهولة على الشعور الإسلامي في أوساط الشعوب العربية، وتحديداً في أزمات الأمة الحرجة وقضاياها المصيرية التي تتصدرها (القضية الفلسطينية) بكل تعقيداتها الداخلية، فإيران بدت أنها في خندق (المقاومة) مع الشعب العربي مقابل العدو الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة الأمريكية، سواء ً في لبنان أو فلسطين أو سوريا، بل هذا ما يؤكده (الإعلام الرسمي العربي) دون أن يعي أنه ُيقدم (خدمة مجانية) غير مباشرة للإيرانيين، لكونه ُيكرّس لفكرة أن إيران داعمة بقوة للقضايا العربية، وهو هنا لم ينتبه للشعرة الفاصلة بين (التحذير) من المشروع الفارسي و(الترويج) للمنطق الإيراني، وبهذا كسبت طهران نوعاً من التعاطف لسياساتها ومواقفها الدولية، بل والسكوت على تجاوزاتها في قضايا أخرى، كمسألة احتلال الجزر الإماراتية، أو مس السيادة البحرينية، أو التوغل الإيراني في العراق، ما يفسر عدم التفاعل العربي الشعبي مع الخطوة المغربية بعد قطع الرباط علاقاتها مع طهران، ما قد يعني أن إيران تمكنت بالفعل من اختراق (الوعي الشعبي العربي) بالعزف على وتر المقاومة، وهو عزف مزيف إذا ما تساءلنا عن انعدام الدعم الإيراني للمقاومة الشيشانية، أو انسجام الموقفين الإيراني والأمريكي في أفغانستان والعراق ب(زواج متعة) حقق لإيران التخلص من عدوين رئيسين لها وبجوارها عن طريق الولايات المتحدة الأمريكية، من جهة الشرق (حكومة الطالبان) ذات الصبغة السنية السلفية عام 2001م، ومن جهة الغرب (نظام صدام حسين) القومي البعثي عام 2003م، فلقد تغاضت إيران عن تحليق الطيران الأمريكي في أجوائها المجاورة لأفغانستان لمدة تزيد عن الشهرين، لتمكينه من تدمير القدرة القتالية لقوات طالبان تمهيدا ً لدخول قوات (تحالف الشمال الأفغاني) مناطق نفوذ الطالبان، أما في العراق فليس خافيا ً ذلك التحالف المشبوه بين النظام الإيراني والإدارة الأمريكية من واقع (همزة الوصل) المتمثلة بالقيادات الشيعية التي جاءت من إيران على ظهور الدبابات الأمريكية.
بعد كل هذا لا نستغرب التعاطي الإيراني مع المذهبية الشيعية داخل الوطن العربي لأنها امتلكت بالفعل أدوات اللعبة بحكم أن (الولاء المذهبي) عند بعض الطوائف الإسلامية يتجاوز (الولاء الوطني) والدعاية الإيرانية نفذت إلى العقلية العربية، ما دفع كثيراً من علماء المسلمين أبرزهم الشيخ يوسف القرضاوي إلى الخروج الإعلامي العلني والتحذير من الممارسات الإيرانية (المذهبية) في المجتمعات السنية، في استغلال واضح لصمت الشعوب العربية التي تخدرت بفعل الدعاية الإيرانية، التي طالما حدثتها عن الوحدة الإسلامية، وتباهت أمامها بصناعاتها المتقدمة، في سبيل تسويق الوهم أن إيران هي الأقدر والمؤهلة صناعياً وسياسياً لقيادة الأمة، رغم أنها في حقيقتها الدستورية دولة (قومية) أكثر من كونها دولة (إسلامية).
Kanaan999@hotmail.com