لا أعلم عن سر هذا الخوف الذي يعتري البعض عندما يأتي ذكر تدريس الفلسفة، ولماذا يعتقد بعض علماء وطلبة العلم الشرعي أن الإسلام سيكون في خطر وأن الناس سيرتدون عن دينهم إذا حصل وانفتحوا على الثقافات الأخرى! وهذا الطرح يعيد التاريخ من جديد، ويذكرنا بالصراع الشهير الذي تم بين الغزالي وابن رشد عن الموقف من الفلسفة، والذي كانت من نتائجه إصابة الأمة بحالة فوبيا مزمنة من العلوم الأخرى، والذي أدت في نهاية الأمر إلى أفول حضارة المسلمين ثم انتقال العلوم والفلسفة إلى أوروبا..
وحسب وجهة نظري، ما يحدث هو مأساة وتقوقع لم نستطع الخروج منه لقرون ولأسباب إما تتعلق بالجهل أو الخوف من تمرد الناس عن طاعة علماء الدين، أما الدين الإسلامي فلا خوف عليه، وهل نخاف على دين وعد الله عز وجل بنصره وتمكينه في الأرض، والدليل على ذلك أوضاع المسلمين في الغرب وسرعة انتشار الدين الإسلامي بين غير المسلمين، حيث لم يؤثر اختلاطهم بالآخرين من مختلف الثقافات الأخرى على عقيدتهم أو على تصديقهم بالدين الحنيف.... لماذا إذن يتم اختزال الإسلام بتاريخه العظيم في عقل سطحي وغير قادر على فهم الآخر، ويظهر الفزع والخوف من كتاب أو من رؤية مثقف عابرة!!..
قامت الدعوة السلفية بمجهودات جبارة لتنقية العقيدة من عبادة الإنسان والقبور والأوثان، لكنها ظلت حبيسة لهذا الموقف من عقائد المسلمين، مما أدخلها في فكر دائرته ضيقة جداً، وجعلها أسيرة موقف دفاعي ضد كل جديد، وكانت نتيجة هذا الموقف وقوعها خلف حركة المجتمع، بدلاً من القيام بدور الموجه للناس قي مقدمة الحركة الحضارية..
عجبت من موقف بعض النواب السلفيين في مجلس الأمة الكويتي، عندما تقدموا بطلب إيقاف تدريس الفسلفة في المدارس، وذلك خوفاً على الدين الإسلامي من العقل الفلسفي، وهو موقف يدخل أيضاً في دائرة البارانويا من الآخر ومن زمن لم يعد فيه للحرمان مكان، فنوافذ المعرفة أصبحت مفتوحة على مصراعيها سواء كان من خلال الشبكة العنقودية أو عبر الإعلام المقروء والمرئي..
كم أتمنى أن يتم إدخال منهج دراسي يتحدث عن تاريخ تطور العلم، والذي لا يمكن فصل الفلسفة عن قصة تطوره. والفلسفة مرت في مراحل عديدة، منها ما هو غير بناء ولا يحمل إلا تصورات ماهية للماورائيات، لكنها في مراحل أخرى قدمت للإنسانية أطروحات اقتصادية واجتماعية لعل من أهمها التفصيل في تطبيق الكليات، فعلى سبيل المثال تعتبر حقوق الإنسان أصلاً من أصول الدين الإسلامي، لكنه لم يتم تفعيله إلا من خلال التطور الفكري للفلسفة، ولعل من أهمها منع الرق وعبودية البشر، بينما لم يستطع المسلمون خلال القرون العديدة أن يطوروا من مفهوم تحرير الرقاب إلى قانون يحرم تداول البشر في الأسواق التجارية، والسبب كان تغييب العقل الذي من طبائعه التكيف مع عوامل التطور الطبيعي لقوانين المجتمع وأخلاقه وآلياته المدنية..
كان غياب فهم تطور أصول الفلسفة كارثي في بعض المجالات، لعل من أهمها الموقف من الرأسمالية، فقد دفع الناس ضريبة جهل الرأسمالية وخفاياها في الدورة الاقتصادية الحالية، وكلفهم ذلك ثمناً غالياً عندما تم الغرير بالناس بسبب محاولة البعض المتاخرة للتقريب بين الرأسمالية المتطورة جداً وبين مبادئ الاقتصاد الإسلامي المغيبة، والسبب -حسب وجهة نظري- كان تحريم الإطلاع على المدارس الفلسفية ومنها المنهج الليبرالي الذي من أصوله فلسفة الرأسمالية من خلال منظومتها الغربية، والتي تقدمت عبر القرون وأكتسب مهارات في غاية التوحش إذا تم تطبيقها مجردة في مجتمعات ليست لديها دراية بمراحل تطورها في المجتمات الغربية، وبالفعل كانت النتيجة كارثية بكل ما تعنيه الكلمة، ولو كان المجتهد الشرعي مطلعاً على تاريخ تطور العلوم الفلسفية لربما كانت اجتهاداته في المعاملات المالية أكثر تحفظاً وأقل ضرراً على الإنسان المغيب عن تطور العلوم المادية في المجتمعات الغربية..
باختصار، الموقف الحالي ضد الفلسفة هو موقف ضد التفكير وضد العقل، ولا يمكن بأي حال أن نتغلب على أزماتنا الحالية من دون تفعيل العقل والتفكير المنهجي. وحدوث الأخطاء في مراحل سابقة لا يجب أن يعني تحريم استعمال العقل وملكة التفكير والإبداع..