Al Jazirah NewsPaper Monday  23/03/2009 G Issue 13325
الأثنين 26 ربيع الأول 1430   العدد  13325
هل تصبح السعودية بلد المليون روائي؟
د. عبدالرحمن الحبيب

 

(صحيح أننا قريباً في السعودية سنُلقّب ببلد المليون روائي منتزعين بذلك اللقب من بلد المليون شاعر في موريتانيا..) الكاتبة الروائية زينب حفني. حسناً، ما المشكلة في كثرة الروايات؟ فلندع ألف زهرة روائية تتفتح كل سنة، أليس في ذلك ما يدعو إلى الارتياح ومؤشر لانتشار الثقافة وصحوة أدبية ونهضة فنية؟

مثلما تهبط المسلسلات علينا فجأة في شهر رمضان، صارت الإنتاجات الروائية السعودية تهبط علينا ب(الكوم) في المعرض الدولي للكتاب في الرياض. ومثلما تهتم المسلسلات بقضية واحدة هي القبول من أكبر قدر ممكن من الجماهير، صار كُتاب يلهثون في طرح روايات بأي أسلوب كتابي من أجل الانتشار الشعبي..

فهل هذه الظاهرة إيجابية أم سلبية؟

محاولة إرضاء الجمهور تنقل العمل من حالته النخبوية أو شبه النخبوية إلى حالة شعبية. من حالة الاشتغال في العملية الفنية والحس الجمالي والمغامرة الروحية إلى حالة نمطية الذوق والحس التقليدي والركود الروحي. الحالة الفنية النخبوية تحاول أن تعيد صياغة الواقع، وتبحث في مكنونات النفس وتناقضاتها، وتداخلات الوقائع الاجتماعية وتكشف ما وراء الأحداث، تتحول إلى حالة شعبية تقول ما يُعرف، وتتحدث عن أسرار عادية متوقعة، ومتع سريعة الانطفاء، وتدغدغ القراء بأفكار ترضيهم وحماسة تلعب بعواطفهم بطريقة مباشرة مؤقتة لا عمق فيها.. وهنا تتحول الرواية المبدعة إلى رواية عادية..

لكن لا مشكلة في ذلك، فهذه طبيعة المنتجات تتراوح من العادي إلى المتفوق.. وندع الوقت يفرز الغث والسمين! إنما المشكلة هو الانتقال من الحالة الشعبية العادية إلى الحالة الشعبوية (شعبية ممعنة في التسطيح).. فالتمادي في المنافسة بين الكُتاب على إرضاء الجمهور أوصلنا إلى استخدام أدوات شعبوية عبر أساليب الإثارة السطحية والصياغة الصحفية المستعجلة والمضمون الإخباري السريع، وصاحب كل ذلك انعدام الرؤية الفنية أو فقرها..

والانتقال للحالة الشعبوية، سمح بدخول كُتاب لهم أهميتهم في مجالهم، لكنهم طارئون على الرواية ولا علاقة لهم بالعمل الأدبي الإبداعي، وهم في أفضل الأحوال كُتاب سيرة ذاتية.. يتعاملون مع الفني من خلال المضمون التقريري الصحفي، ومن خلال الأخبار التي يسردونها في طرحهم الحكواتي. وغالبيتهم يهتم بالمسألة التوثيقية الجافة أو الوعظ الأخلاقي المباشر أو سرد شهادته المباشرة الفجة على المرحلة التي يتكلم عنها. وأؤكد هنا، أنني لست ضد التقريرية أو التوثيقية أو الإثارة أو السيرة الذاتية فهي بحد ذاتها أدوات فنية يمكن للمبدع استخدامها متى شاء لخدمة الرواية فنياً، ولكن ليس العكس.

هذه الحالة الشعبوية أرغمت بعض كُتاب الرواية المبدعين أن يتماهى مع المزاج الشعبوي ويندلق في الإثارة والتقريرية. بل أكثر من ذلك، أن كثيراً من النقاد الثقافيين انجر مع هذا السياق الشعبوي وتنازل عن عمله النقدي، وانغمس في المضمون التقريري الاجتماعي، متناولاً المضمون السطحي للعمل السردي وليس بناءه وصياغته وتحليل أعماقه.. أي أنهم يحاكمون النص السردي من خلال دقة وعدم دقة المعلومات وانطباقها على الواقع السعودي؛ وكأن هذا العمل هو تقرير اجتماعي أو صحفي..

الحالة الشعبوية (مثل كل الحالات الشعبوية) تكون جارفة ومستبدة ولا تقبل النقد.. انظر إلى الروائيين والروائيات الذي يطلّون في اللقاءات الصحفية ويستهزئون بكل أنواع النقد والنُقاد، عبر شعار شعبوي: الجمهور هو الحكم الأول! أنا لا أعترف بالنقاد بل بالناس! المقياس هو عدد المبيعات وليس رأي النقاد! وهذا يذكرنا بموجة سينما المقاولات في مصر قبل ثلاثين سنة، وشعارها (الجمهور عايز كده!) التي سرعان ما سقطت بلا رجعة.

الاستخفاف بالنقد ورفضه ينمّ عن قصور في التفكير.. فلكي نقيّم أي عمل لا بد من النقاد والمتخصصين والمهتمين والمتابعين، حتى في أكثر الأعمال الفنية نجاحاً جماهيرياً وهي الأفلام السينمائية التي يتابعها الأمي والمتعلم والمثقف، تجد في دور السينما في الغرب (أمريكا بالتحديد) تصنيف درجات للفيلم قبل أن تراه، وهذا التصنيف هو من عمل النُقاد.. ثم في نهاية كل موسم تقام مهرجانات ضخمة وتوضع جوائز تقديرية تعد للفنانين مؤشرا مهما لنجاح عملهم الفني، ويعتبره كثير من الفنانين شهادة إثبات على نجاح مسيرتهم. وهذا التقييم يحدده نُقاد ومتخصصون، كالأوسكار مثلاً.. فالنقد جزء أساسي من أية عملية بشرية، وبلا النقد نصل للجمود..

ورفض دور النقد هو مؤشر شكّ بالإمكانات الذاتية وأزمة ثقة بالذات المبدعة.. فما الذي يخشاه الروائي من النقد، إذا كان هو في روايته أو هو ككاتب يمارس النقد للمؤسسات والأفراد والسلوكيات.. وما يثير السخرية أن كثيراً من الروائيين والروائيات في داخل الحوارات الصحفية، يبدأ حديثه برفض النقد ويؤكد أن المعيار الوحيد هو الجمهور، ثم بعد بضعة أسطر يناقض أقواله وينصب نفسه ناقداً لكثير من الروايات والروائيين..

يحق للمبدع أن يرفض رأي الناقد ويتمرد على النقد المدرسي.. يحق له أن يعترض على الناقد المدرسي الذي يضع قوالب جاهزة وأنماطا معينة، ويحصره في قفص مدرسي أو قيود تقليدية.. ولكن الذي يحدث غالباً هو أن النقد الحديث الجاد يطرح رؤيته ضد التأطير والقولبة، وضد النمط التقليدي الضيق الذي وضع الروائي نفسه فيه. فأغلب النقد الحديث المطروح يدعو الكاتب للخروج من القيود الخطابية والقفص الحكواتي، والمقالة التقريرية، ولا يطالبه بالالتزام بقيود معينة، بل يدعوه للتحرر.. وعندما يطالبه بشروط فهي شروط الانسجام السياقي مع ما يطرحه الروائي من نسق..

الجمهور له أهمية أساسية في عملية الإنتاج الأدبي، والرواية على وجه الخصوص، لكنه ليس الوحيد، فالنقد له دور أساسي أيضا.. فعندما يتعلق الأمر بالسكن والصحة والتعليم والتنمية..الخ فبالتأكيد نرجع أولاً لرأي الناس لأنها قضايا تمسهم في حياتهم اليومية المباشرة، وعندما نعبر عن ذلك فإننا نقوم به من خلال المسح الميداني الواقعي والتقارير المباشرة والدراسة العلمية؛ لكن عندما يتعلق الأمر بالأدب الإبداعي الجمالي، تكون حراً تضع ما تبدعه ذاتك الفنية تلامس حياة الناس أو لا تلامسها.. توافق المدارس الفنية النقدية أو لا توافقها.. أنت حر، لكن هذه الحرية تتضمن مسؤولية، والنقد هو الذي يحاسبك، فهو لن يوافق على تحطمك لأنماط دون أن يقيِّم تحطيمك.. وهو لن يرضى بأن تنتج له عملاً مفككاً دون أن يكشف هذا التفكك.. وهو لن يدعك تدخل مجالاً فنياً لا تعرف أبجدياته الأولى دون أن يعري ضعفك..

في السعودية روائيات وروائيون مبدعون، ونُقاد جادون، لكن نسبتهم تتضاءل أمام الزحف الشعبوي، لأن الروايات الشعبوية تنال الحظوة الجماهيرية، ولأن النقاد الشعبويين يسيطرون على ملفات النقد الصحفي على طريقة التحليل الخبري السريع.. والحالة الشعبوية لدى (الروائي) لا ترضى إلا بنقد وحيد وهو المدح.. نقد المجاملة المنطلق من الشللية.. لكن التجارب السابقة أوضحت أن تلك مرحلة لا تطول.. فماذا تخبئ لنا الرواية السعودية القادمة؟



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد