قبل أن نتحدث عن أمننا الوطني في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، وفي بقية دول مجلس التعاون الخليجي عموماً، وذلك في ظل الطموحات الإيرانية ومزاعمها بوجود حقوق تاريخية لها في البحرين، وكذلك عن تأثير كل هذا على علاقاتنا الدولية بالآخرين سواء على الصعيد الدولي بمفهومه الواسع أو الإقليمي
فإننا لا بد أن نتكلم عن هذه العناصر الثلاثة للعنوان بشيء من الاستفاضة عن كل عنصر بشكل منفرد، قبل أن نحاول الاجتهاد في الربط بينها، لبيان مدى تأثر هذه العناصر ببعضها ومن ثم تأثيرها على بلداننا الخليجية مجتمعة أو منفردة. مع إيماننا بالطبع، أن القدر المشترك لدول مجلس التعاون الخليجي كان وسيبقى أمراً واحداً لا يمكن تجزئته أو تعاطيه بشكل منفرد، مهما حاول البعض أو تخيل قدرته على ذلك. وهذا ما سيكون شأني في الكتابة عن العنوان بعناصره التي يحتويها في مقالي اليوم وفي المقالات القادمة بإذن الله.
فيما يتعلق بالأمن الوطني فإن من المؤكد أن صونه لأي بلد هو أحد أهم المهام المناطة بحكومته. وذلك لما لهذا الأمر من مساس بكيان البلد ومكتسباته، بل حتى بسيادته وبقائه، ناهيك عن أثره البيِّن في صناعة سياساته الداخلية والخارجية وعلاقاته بالمجتمع الدولي. وقبل الخوض في أهمية العلاقة بين الأمن الوطني وجميع العناصر السالف ذكرها، وقبل الولوج إلى تناول محاور العنوان الثلاثة فإننا نحتاج إلى تعريف الأمن الوطني قبل تناول تأثيراته. إن التعرّف عن قرب على الأمن الوطني أو القومي يساعد كثيراً في تقديم تفسير شامل لدراسة السياسات الداخلية والخارجية للدول، وذلك لأنه يجبر الساسة وصنّاع القرار والمحللين على تحليل العوامل الخارجية وكذلك الداخلية التي تشكل هذه السياسات في ظل منظور الأمن الوطني.
ولتعريف الأمن الوطني فإننا سنجد أن هناك من يعرّفه بأنه قدرة البلد على مقاومة التهديدات الداخلية والخارجية التي تهدد بقاءه المادي الطبيعي أو قيمه الجوهرية. كما أن هناك من يعرّف الأمن الوطني على أنه يتمثّل في قدرة الدول على حفظ هويتها وسمات استقلالها وسلامة ووحدة أراضيها الفعلية. وهناك بعض المنظرين ممن يرون الأمن الوطني على أنه تصور يشمل الكثير من الأهداف، بدون وجود اتفاق موحد حول ماهية هذه الأهداف التي يتضمنها هذا التصور. ولهذا فليس هناك في نظرهم مفهوم أو تعريف عام لهذا التصور، غير أنه وبكل تأكيد يتضمن تأمين البقاء الوطني أو القومي، وبحيث يظل أي شي آخر مشمولاً في هذا التصور مبهم وغير محدد. وأرى بناءً على كل ما تقدم أن الأمن الوطني هو ذلك الجانب المتعلّق بصون سيادة البلد وسلامة أراضيه وهويته وحفظ مقدراته وتعزيز استقراره السياسي المؤيّد بعلاقات دولية متينة ومؤثرة.
ولهذا فإن سياسات وإجراءات الأمن الوطني التي تنتهجها حكومة أي دولة، أو هكذا يجب أن يكون الأمر، هي ذلك الجزء من سياساتها على الصعيد الداخلي أو الخارجي التي تعنى بتحقيقه. ومن ذلك بطبيعة الحال سياسات تقسيم الموارد ورسم السياسات التي تخص قطاعات الإنتاج المختلفة أو بناء ونشر القوات العسكرية أو بناء العلاقات الدولية وفق ما يحقق المصالح العليا، بما في ذلك الدخول في معاهدات جماعية أو ثنائية أو تكتلات اقتصادية وسياسية، بل حتى أحلاف عسكرية. وكل هذه الإجراءات وما هو في حكمها، هي من ضمن وسائل مفيدة وفاعلة في تعزيز الأمن الوطني، عند إجادة توظيفها في صناعة السياسة الداخلية والخارجية، بل مقياس للنجاح أو الإخفاق في هذه السياسات على الصعيد الداخلي والخارجي معاً.وأثناء محاولة صنع السياسة الخارجية تحديداً، فإن وقتنا الراهن يشهد تعاظم أثر الأمن الوطني على السياسة الخارجية للدول وخصوصاً تلك الدول التي قدّر لها أن تكون في بؤر ساخنة أو لها طموحاتها ومنافسيها، وذلك بسبب تعاظم النزاعات بين الدول. وقد غدا الأمن الوطني يلعب دوراً رئيسياً في صناعة السياسة الخارجية لأي دولة ويعتبر عاملاً لا يمكن تجاوزه أثناء تأسيس العلاقات الدولية في وجود حقيقة التنافس ضمن المجتمع الدولي، مع أن هناك الكثير ممن يعتقدون بإمكانية تحقيق السلام بين الشعوب إذا تخلت عن حتمية المنافسة إلى إمكانية التعاون. فعلماء السياسة يعتقدون أن السلوك السياسي يستجيب بشكل أساسي لتوزيع وتقاسم القوة والنفوذ في النظام الدولي، وهم في نفس الوقت يعطون أهمية كبيرة لتأثير قوى الاقتصاد الوطنية المحلية والهياكل الاجتماعية المختلفة على هذا السلوك.
وعلى أي حال فإن هناك اتفاقاً كبيراً جداً على إعطاء الأمن الوطني أهمية كبرى من حيث تأثيره على السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. فمنهم من يصر على أن الأمن الوطني يبقى هو الاعتبار المهيمن على السياسة الخارجية وأنه لم يعد هناك أي مجال لمزيد من الشك حول الأهمية المطلقة لتأثير قضاياه المختلفة على الدولة في مجال العلاقات الدولية. ولهذا فالحفاظ عليه يتطلب تحليلاً وافياً للتمييز بين الحقائق ومجرد التصورات، وذلك لكون الإخفاق فيها سيكون في كثير من الأحيان باهظ الثمن. وهذه المهمة رغم ظاهر بساطتها، فإنها مليئة بالصعوبات ومحفوفة بالمخاطر، وذلك لأنه في الغالب يتعذر على المنظرين والمحلّلين وصنّاع القرارات السياسية، وبخاصة ذات الطابع الإستراتيجي، إلا المحنكين منهم بالطبع، التمييز بين ما يمثّل خطراً حقيقياً وبين ما يمكن اعتباره مجرد تصور لتهديد مزعوم أو مفترض.
إن التهديدات التي يتعرض لها الأمن الوطني لأي دولة تأخذ في واقعها أشكالاً عديدة ومتباينه. وبلا شك فإن هذه الأشكال لا تقتصر على التهديد العسكري المتمثّل في احتلال مباشر لإقليم دولة ما أو لجزء منه، بل تتعداه إلى صور مختلفة كثيرة. ومن هذه الصور التهديد الاقتصادي أو السياسي أو العقائدي أو الثقافي أو وجود مطالب أو احتياجات لفئة من الشعب تقوم على عوامل تاريخية أو عرقية أو ثقافية أو دينية خارج النسيج الواحد لوطن ما. وهكذا فمن المهم هنا أن نبيّن أنه وبناءً على شكل التهديد الذي تخشاه كل دولة، فإنها تتبنى تعريفاً محدداً لأمنها الوطني بصيغة ربما تكون مغايرة لما لدى الآخرين، وبناءً على قضياها الخاصة وظروفها التي تحياها وما يحيط بها من أحداث وما لديها من موارد ومصادر وحسب ما تراه يحتل الأسبقية في سلم الأولويات لديها.
وعلى أي حال فإن هناك دولاً كثيرة ترى أن في قضايا محددة، أثرها البالغ على أمنها القومي والوطني وتقدمها على سواها. ومثال ذلك مشاكل الموارد المائية في الشرق الأوسط كتلك التي بين تركيا وسوريا والعراق. فهذه القضية تشكل تهديداً للأمن الوطني في هذه الدول وقد أدت إلى سياسات خارجية قلقة بين حكومات هذه الدول وربما مناوشات عسكرية أو حروب في المستقبل حول مصادر المياه المشتركة بينها، والتي تشكل الحاجة إليها أو النقص في مواردها، رغم وجود الأنهار الكبيرة، دافعاً قوياً لشن الحروب من أجل حماية هذه المصادر أو بسط الهيمنة عليها. وبكل تأكيد يزداد الأمر خطورة، لدى تلك الدول التي تعاني من النقص الشديد في موارد المياه الطبيعية فيها. وما ينطبق على المياه، ينطبق بشكل تلقائي على الأمن الغذائي الذي يشكل النقص فيه والارتباط بمصادره تهديداً للأمن الوطني بطبيعة الحال. ولنتذكر أن من لا يملك قوته لا يملك قراره.
وبالإضافة إلى ما سبق وبناءً على نظرة اقتصادية بحتة، فإن هناك من يرى أن العامل الاقتصادي، وبكلتا حالتيه فقراً أو غنىً، دائماً ما يشكِّل عبئاً على الأمن الوطني. فالدول ذات الموارد الاقتصادية المحدودة غالباً ما تكون معرضة للابتزاز السياسي من تلك الغنية وبما يصل أحياناً إلى التهديد الفاضح لأمنها الوطني نزولاً عن الحاجة إلى سد العجز في مواردها، أو لضعفها وتخلفها عن إدراك أسرار وأصول اللعبة الاقتصادية بشكلها المعقد والمتشعب في المسرح الدولي. يرى بعض الكتاب أن الدول الضعيفة اقتصادياً ربما وجدت أنفسها وقد استدرجت إلى مصائد كبيرة، وبواسطة نماذج لاقتصاديات متطورة وقوى سياسية كبيرة، جعلت منها مع مرور الوقت دولاً تفتقد للتنمية ومتخلفة ومخترقة سياسياً، وبحيث أصبحت غير قادرة على حشد مواردها الاقتصادية وقواها السياسية الضرورية لبناء الدولة القوية. العلاقة بين معظم دول أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة في الغالب ما توصف ضمن هذه الصيغة والظروف.
وفي حال أن تكون الموارد الاقتصادية للدولة ثرية ومتوافرة فإن الأمر لا يخلو من ضرائب يجب التفكير فيها بمجرد تفكيرنا في الأمن الوطني. ففي الواقع أن تلك الدول الغنية لها معاناة من نوع آخر تتمثَّل في التهديد المستمر لمصادر الثروة فيها ممن لهم مطامعهم فيها وعيونهم دائمة التحديق في كنوزها. فكل ذي نعمة محسود، بل إن الأمر يزداد سوءاً عندما تفتقد مصادر الثروة في دولة ما، للقوة القادرة على حمايتها وصونها من العبث أو مطامع الآخرين. هنا ستتحول مصادر الثروة إلى وسيلة إغراء تؤدي إلى تسابق القوى الكبرى الدولية وحتى الإقليمية للهيمنة عليها وسلبها، بما يعني ببساطة تهديداً مباشراً للأمن الوطني لدولها. كما أنه في حال العمل على حمايتها بتوفير القوة الرادعة لمن تسوّل له نفسه الاقتراب منها، فإن تكاليف هذه القوة هي ذاتها أحد عوامل المعاناة التي قدِّر على الدول الثرية أن تتحمّلها. فبالإضافة إلى توفير هذه القوة فإن هناك أساليب إدارتها وتوظيفها وتوجيهها بالشكل اللائق وبما يقلّل مع مرور الوقت من سلبيات وتكاليف وجودها والتعامل معها، بل يجب على الحكومة وهي توظّف هذه القوة أن تواكب بشكل متوازن بين هذه القوة وتوفير المتانة اللازمة في علاقاتها الدولية المؤثّرة مع المجتمع الدولي بشكل عام والإقليمي بشكل خاص ورموزه ومؤسساته.وعلى أي حال وحتى نقف في موقع متوسط بين قوة العامل الاقتصادي وضعفه، أي بين الغنى والفقر، وأثره على الأمن الوطني للدولة، فإننا يجب أن نقر أن قوته، ومهما كانت التكاليف أو بلغت الضريبة، تمثّل داعماً للأمن الوطني بكل تأكيد. فأطماع الآخرين، ومهما كانت أو بلغت شدّتها، لن تنعدم الحلول لها، مثلما هو الوضع في حال العوز والحاجة. فعلى العموم سنجد أن هناك من يرى بأن الأمن الوطني يمكن تعزيزه من خلال القوة الاقتصادية، وخصوصاً من منظور التعرض للضغوط الدولية أو الإقليمية التي تمارسها بعض مؤسسات المجتمع الدولي ومنظماته خدمة لدول كبرى تحظى بالنفوذ فيها، والتي عادة ما تتعرض لها الدول الأضعف بما يشبه التدخل في شؤونها الداخلية وبما يخدم أجندات أجنبية خفية أحياناً ومعلنة أحياناً أخرى. إن الاكتفاء الذاتي في بلد ما سيجعله بكل تأكيد أقل عرضة للضغوط الدولية التي قد تمارس عليه بسهولة عندما يكون في حاجة للقروض أو المساعدات من تلك المؤسسات أو الدول. وبناءً عليه فإننا لو فكّرنا في حال الأمن الغذائي في بلد ما فإن باستطاعتنا أن نجزم بأنه سيؤثر إيجابياً على أمنه الوطني ويدعمه بشكل يؤدي إلى المزيد من الاستقرار فيه، فيصبح أكثر أمناً وأقل عرضة لأي تهديد محتمل.
mzmzbraidan@gmail.com