في علاقتنا مع كل الأشياء، وموقفنا منها ما يجسده السؤال بحثاً عن العلَّة وما وراء الشيء في ظاهره، وبدون السؤال، فإننا كمن يمضغ الهواء لا مصدر ولا عائد، والفكر والتفكّر فراغ من فراغ، وسبحان العلي العظيم فيما خلق، فلا شيء إذن بعلمه إلا ونجد أن قانون السببية يوضح الهدف والعبرة متى شاء ذلك.
ويتبين هذا من خلال قصة النبي موسى عليه السلام والخضر في سورة (الكهف)، وهذا مثال يؤكد السببية فيما أراد أو خلق سبحانه، هذا عن العلاقة بالأشياء من منظور عام، إلا أن جانبها الفلسفي يكمن في المحاكمة وتتابع السؤال، ولقد قال ديكارت 1596-1650:(إن الفلسفة أشبه بشجرة جذورها علم من وراء الطبيعة، وجذعها علم الطبيعة، وأغصانها علوم أخرى).
والفيلسوف الألماني ليتنز اكتشف من السؤال التلقائي أو الفطري عن علل الأشياء، حيث قال: (لا واقع يمكن أن يكون حقاً أو موجوداً إلا ويكون بعلة كامنة يدركها العالم، ويغفل عنها الجاهل) وهكذا، فإن الفلسفة في موادها اليسير والعسير على الأفهام، فمن يكتب عن موضوع قد يعجز عن التعبير لأنه معقد بالذات وليس بالعرض، والتفاصيل نجدها فيما وراء الموضوع، ومع ذلك، فإن المدركات الفطرية يدركها الإنسان بشكل تلقائي، وبلا دليل أو مقدمات فهي من المعارف البديهية، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن ذلك أن من يجهل مسالك الطريق في توجهه للهدف يتبين الغامض بسؤال من يعلمها، والكل يدرك أن المريض لابد أن يراجع الطبيب، وندرك تلقائياً أن التحصيل له وسائله، ونعلم أن من أحس بالعطش احتاج إلى الماء، إلى آخره من الأمثلة.
والظاهرة التلقائية في المعرفة لا يجادل من حولها أحد، ومن أراد ذلك فهو كمن ينكر على موجود من البشر علمه بوجوده، وهي حقائق أولية؛ لأن دلالاتها ذاتية وما بالذات لا يُعلل، أي لا يحتاج إلى دليل وإنما يستدل به على غيره، ولا يستدل بغيره عليه، فلا معنى لماذا يطير الطائر بجناحيه، أو أن نسأل لماذا يأكل الإنسان من فمه؟
والاعتقاد بأن العلوم بكاملها أو الفلسفات، وكذلك المناهج بأنواعها والفنون والآداب إلا أجزاء من خبرة العقل وحصيلة للتفكّر، وقد قال أحدهم: (إذا غاب العقل ظهرت الخرافة) وهذا اعتقاد صحيح، وظاهر الأشياء لا يعبّر عنها، وفي جانبها الفلسفي بيان وتوضيح من خلال النظر إلى ما وراء الظاهر.
وهذه الرؤى تتوقف على الناظر، فقد يقف به تأمله عند الظواهر، وإن كان في معظم الأحيان لا يستطيع أن يسبر غورها إلا بمعرفة ما هو أبعد، وذلك من خلال السؤال الذي به تتكشف الأشياء، ومثال هذا سؤال إدوارد جينر حين لاحظ أن حالبات البقر لا يصيبهن أذى من مرض الجدري، فكان السؤال الذي قاده إلى اكتشاف المصل الواقي من مرض الجدري، وكذلك نيوتن؛ حيث سأل: لماذا التفاحة تسقط في اتجاه واحد وليس سقوطاً من هنا أو هناك، بل إلى الأسفل بفعل الجاذبية الأرضية؛ حيث برهن عليها كأول مكتشف لها، فالنظر من منطلق الأبعاد ومن منظور فلسفي يعين على اكتشاف الحقيقة وتأكيد قيمتها، إلا أن بعض مناحي الفلسفة تنتهي بالجدل العقيم، ومع ذلك، فإن السؤال مقدمة للصواب وهو كاشف للحقيقة حيث القفز إلى الجواب اختصار للرؤية وللشيء المرئي، فلا شجرة بلا جذور، ولا جذور بلا بذور وفي النهاية لا ثمرة ولا ناتج للشجرة تلك.
إننا نستدل على البعث كرؤية لسبب الموت، وهذا افتراض سابق للرسالة والوحي، والعقل لابد أن يستدل على البعث والحساب طالما أنه يمارس الحياة بالخطأ والصواب، ومن خلال الصالح والطالح، وفي حقيقة الموت حقيقة الحساب؛ حيث الحرية تواكب مسيرة الإنسان في هذه الحياة، وبها يختار طريقه وفق الأهواء أو بتوجيه العقل، فالإنسان مسير ليختار، مسيّر بقوانين وسنن الله التي تنظم معيشتنا في هذه الحياة التي يعقبها رحلة خلود وبقاء، وكل اختيار له ثمن في هذه الدنيا، وفي الآخرة، وفي الهداية سبيل النجاة.