تنبش في ذاكرة (أرشيف) كثير من المؤسسات الحكومية فتدهشك بعض الأفكار والطروحات النوعية البنائية المتميزة (القديمة) التي تصلح حالياً في معالجة مشكلة قائمة أو تنمية حالة دائمة وتطويرها، وتدهش أكثر عندما تكتشف أن بعضاً من تلك الأفكار قد سبق أن تمت دراستها وتقويمها وإقرار العمل بها قبل ردح من الزمن قد يمتد إلى عقد أو أكثر من السنين. غير أنها لم تر النور لأسباب غير معروفة. وتتساءل أين مكمن الخلل؟!
|
لماذا لم يتم تطبيقها آنذاك؟! ولم حرم المجتمع من خيراتها طيلة عقود من الزمان؟!
|
وإذا كان الفشل حليفها عند التطبيق، فأين التوثيق كي لا تتكرر المعاناة نفسها والفشل؟!
|
وليت الأمر يقتصر على تجربة واحدة، بل ليته يقتصر على مؤسسة معينة، إنها حالة أشبه ما تكون عامة، ومرض يمكن اعتباره مزمناً، ولعلنا جدلاً نسميه داء فقدان الذاكرة المؤسسي، أو المؤسسة فاقدة الذاكرة.
|
في المؤسسة فاقدة الذاكرة يسيِّر العمل دونما توثيق أو تصنيف يحتم على كل باحث جاد وكل صانع قرار أن يستفيد منه، ولذا فكثيراً ما تختفي الجهود النوعية بل قد تموت وتنسى ثم تفقد ولا يبقى لها أثر، تلك الظاهرة تحرم المؤسسة دوماً من خبرات وتجارب كثيرة، وتتسبب في هدر كبير في الجهد والمال نتيجة تكرار العمل وإعاقة التطوير، فالقاعدة في ظل فقدان الذاكرة المؤسسي هي البداية من حيث بدأ الآخرون، وليس من حيث انتهوا، إذ إن ثقافة العمل التراكمي توشك أن تكون ثقافة منسية أيضاً.
|
وثمة عرض آخر لمرض فقدان الذاكرة المؤسسي حيث يزخر أرشيف المؤسسة بعدد كبير من التجارب والخلاصات القيمة لخبرات متراكمة، لكن هذه الثروة الغنية لا تجد من يستثمرها؛ فتصنع القرارات وتبنى الإستراتيجيات دونما توظيف لتلك المعلومات والخبرات، ربما جهلاً بوجودها أو قصوراً في البحث عنها، أو لعدم وجود منهجية في صناعة القرار تستلزم الاستفادة منها، فتتكرر الجهود والأخطاء وتعود العجلة للدوران في المسار نفسه، لكن بفريق مختلف، والضريبة تدفعها العينة التجريبية التي قد تكون أحياناً (غير قليلة) وقد تكون (المجتمع كله).
|
ويأتي العرض الثالث لمرض فقدان الذاكرة المؤسسي حين تشرع المؤسسة في تجربة ما نتيجة اندفاعه حماسية لفرد أو لمجموعة من صنّاع القرار! ويتم تطبيق هذه التجربة في منطقة أو أكثر، وفي ظل افتقاد إستراتيجية تجريبية منهجية وآلية متابعة تطويرية؛ قد تنسى الأهداف من التجربة في خضم التغييرات الإدارية المتلاحقة، وتبقى التجربة في الميدان، حيث لا قرار يسمح بالتوسع فيها ولا آخر يفيد بانتهاء الحاجة إليها، ولا يشعر بها حقيقة إلاّ من يكابد عناءها، وهؤلاء في العادة قد لا يكونون أصحاب قرارٍ حاسم فيها. وبمرور الزمن تنسى المؤسسة أن هناك تجارب قائمة في الميدان، ولا ينتهي هذا السبات إلاّ حين تسلط الأضواء مرة أخرى على أصحاب التجارب المنسية.
|
وثمة عرض رابع لمرض فقدان الذاكرة، وهو عرض غريب حيث يقتصر على سلوك فردي يصاب به بعض المسؤولين عند توليهم دفة قيادة المؤسسات ويتمثل في نسف المنظورات والأفكار السابقة واقتراح بدائل نظرية جديدة تسود مفردات الخطاب المؤسسي لكنها في الغالب لا تتعداه إلى ممارسات منسوبي المؤسسة أو سلوكياتهم اليومية، وأحياناً قد تتفاعل البدائل النظرية الجديدة مع المحتوى الفكري السابق، فتخرج مسخاً غير منتم، وعقيماً غير منتج.
|
أما أهم الأعراض المرضية المؤثرة سلباً في مسيرة المؤسسة فاقدة الذاكرة هو أن تفقد المؤسسة ذاكراتها الأساسية، حيث يعتاد العاملون بالمؤسسة على نمطية معينة من السلوك الوظيفي فيصبح العمل آليا ومكروراً، وتتوقف مسيرة التطوير في المؤسسة، وتنسى المؤسسة رؤيتها وأهدافها المستقبلية ويسير العمل روتينياً تقليداً يتعامل مع الحديث والجديد بنفس الآلية والروتين الذي كان يتعامل به منذ عقود من الزمن وكأن عجلة الزمن ثابتة لا تتغير، ولعل جمود عدد من المؤسسات الحكومية ضد التطوير ما هو إلاّ نتيجة لنسيان الإدارة لرسالة المؤسسة ورؤيتها وأهدافها وتطلعاتها.
|
إن ما تعاني منه بعض مؤسساتنا الحكومية والأهلية من ضبابية في الرؤية المستقبلية للمؤسسة، وغيابٍ للتخطيط الإستراتيجي الفعّال، وضمورٍ في أساليب التحفيز والتطوير الفاعلة، وتضاؤلٍ لدور الرقابة والمحاسبية، وتعاظمٍ لتأثير الشخصنة والعشوائية في الإدارة والتقويم تلك الأسباب كلها أو بعض منها أعراض لمرض فقدان الذاكرة المؤسسي.
|
ولنا أن نتساءل: ما السبيل إلى تطوير أداء العمل في بعض مؤسساتنا ذات الذاكرة المفقودة؟ هل يتطلب الأمر عملية جراحية لزراعة أنسجة جديدة، أم نحتاج إلى جرعات من الدواء تعيد لخلايا المؤسسة الحيوية والنضارة والنشاط، أم يقتصر دورنا على علاجٍ نفسي من خلال تغيير بعض الممارسات اليومية والمؤثرات الداخلية والخارجية؟ وإذا لم يتحقق أي من المعالجات السابقة فهل لنا أن نلوم الزمن والعادات والتقاليد ويبقى مرض فقدان الذاكرة في مؤسساتنا سمة تنبئ عن إصرارنا على تمسكنا بالأعراف والتقاليد المؤسسية حتى ولو كان في ذلك عاهات وتشوهات تجهض كل تطوير وتعيق كل تحديث؟! إنها خيارات بين أيدينا، وقديماً قيل من لم يستفد من الماضي في تطوير الحاضر فليس له مستقبل. قال ابن دريد:
|
مَنْ لم تُفدْهُ عِبَراً أيامُهُ |
كانَ العمى أولَى به من الهُدَى |
|