لا أدري مَن سبق مَن في توقيع إنتاجه، هل هم الشعراء والمثقفون والأدباء أولاً..؟ أم الفنانون والمطربون والمطربات..؟ فالتوقيع على الأشرطة الجديدة أو (الألبومات) لبعض الفنانين، شاع حتى صار ظاهرة في سوق الإنتاج الفني،
وأصبح توقيع المنتج الثقافي والإبداعي، ظاهرة كذلك في معارض الكتب، وفي الفعاليات الثقافية المصاحبة لها.
* عقد معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام - مثلما فعل في العام الفارط - منصة خاصة للتوقيع، تستضيف المؤلفين والمؤلفات، الذين يفصحون من فوقها، عن كتبهم ومؤلفاتهم الجديدة، ويوقعون على النسخ المهداة لقرائهم، وهذه في حد ذاتها، ميزة حضارية جيدة، يمنحها المعرض للمثقفين والأدباء والباحثين، وهو بذلك يقتفي أثر المعارض الدولية التي سبقته في هذا التقليد الجميل، ولولا حالات التنقيص والتنغيص، التي واجهت منصة التشريف هذه، وجُوبِه بها بعض من اعتلاها من مؤلفين ومؤلفات أيام المعرض، لعُدّ معرض الرياض الدولي للكتاب، أول معرض في المملكة، يحترم هذا التقليد، ويعطيه حقه من الاحتفاء الذي يليق به. أحد الزملاء الذين شهدوا حالات تنغيصية وتنكيدية من تلك قال ساخراً: لو كنت مسؤولاً عن هكذا منصة، لوضعت لوحة أعلاها تقول: استلم نسختك من وراء حجاب، أو بوساطة مراسل بنغالي، أو خذها وأنت مغمض العينين. وتذكر أنه يمنع اللمس والهمس، ويمنع الابتسام في وجوه موقعي وموقعات الكتب، ويمنع الكلام مع الموقعات من النساء بالذات، ولو حتى ان تقول للواحدة منهن: (شكراً يا أخت حليمة)..!
* في كل مرة ألج فيها معرضاً للكتب، كنت أحث نفسي على أن أتروى في اختيار وشراء الكتب، فلا اشتري إلا القليل الذي ينقصني فعلاً، ولا يثقلني حمله في السفر، لكني ما إن أقف أمام دار نشر، إلا وتغلبني شهية اقتناء الكتب، فأندفع للشراء والجمع، حتى أنسى نفسي، وقد أنسى أن بعض الذي اشتريه، هو موجود عندي، وهذه مشكلة وجدت أني لست وحدي من يعانيها، ولكنها عند كثيرٍ من أصدقائي الذين يقتنون الكتب، ويعقدون لها مكتبات في دورهم.
* حملت معي من معرض الرياض هذا العام عدداً جيداً من الكتب التي لم أجدها في سوق الكتب قبل المعرض، وقد فعلت ذلك في العام السابق، لكني حملت عن معرض الرياض للكتاب هذا العام، ما يفوق عدد وعدة الكتب التي اقتنيتها، وأكثر بكثير مما حملته عن نسخته السابقة. جاء المعرض هذا العام، أنضج ترتيباً، وأبهى تنظيماً، وأحكم إدارةً. وظهرت إدارة المعرض بمظهر رائع، يعبر عن وزارة الثقافة، ويليق بالثقافة السعودية وبمنسوبيها، الذين جاءوا إلى العاصمة من مناطق ومحافظات ومدن المملكة، فالفعاليات المصاحبة - وإن تخصصت في قضايا الكتاب وهمومه، تأليفاً وتسويقاً ونحو ذلك - إلا أنها كانت موضوعية، وذات بُعد يرمز إلى التأثير الذي يحدثه الكتاب في التغيير والتطوير، وقد تمنيت لو شملت الفعاليات المصاحبة، ورش عمل موجهة لشريحة الشباب، وتختص بصناعة الكتاب، تأليفاً ونشراً وتسويقاً، وأخرى في فنون ثقافية، مثل المسرح والسينما والإخراج، وكذلك التصوير والرسم ونحوه، فالثقافة فضاء واسع، والانكباب على قراءة الكتاب وحده، لا تكفي ولا تفي بحاجة كل المثقفين وخصوصاً الشباب منهم.
* اختيار مكان المعرض، وكذلك عقد الفعاليات المصاحبة بجواره، أسهم في نجاح المعرض، وأفصح عن تجربة تنظيمية وإدارية ديناميكية متطورة، فالمتجول بين مئات دور العرض التي مثلت سبعة وعشرين بلداً، يشعر أنه في سوق ثقافي حقيقي، يتميز بروح العصر، خصوصاً وقد تخلص من الرقابة الكتابية الرسمية، ولو لم يتخلص من (رقابة الشك والريبة)...! إن وجود آلاف العناوين العلمية، التي تمثل شتى مجالات المعرفة تحت سقف واحد، وبعضها كان تحت مظنة المنع قبل العرض، هو من أهم المكاسب التي تضيفها وكالة وزارة الثقافة للشؤون الثقافية، انطلاقاً من أن المعلومة في هذا العصر، أضحت حقاً مباحاً ومشاعاً لكل البشر، وحتى انها تسعى إلى طالبيها إلكترونياً، وقد تصل إلى البعض الآخر دون إذن منه، متجاوزة بذلك كل رقيب أو حسيب، فما الجدوى من الحظر الذي أصبح جزءاً من الماضي، ولا يمت لعصر المعرفة والنور بصلة..؟!
* كنا نتمنى أن يتسع هامش الحرية هذا، ليطوي معه كل النوايا المسبقة، والشكوك والريب، التي تحولت في معرض الكتاب هذا - مثلما كانت في سابقه - إلى رقابة أخرى لصيقة، تجري خارج عباءة الجهة المعنية بالثقافة والمثقفين، وأن يصبح المثقفون والمثقفات، الذين يرتادون هذا المعرض الثقافي - وهم في العادة شريحة نخبوية جادة - يصبحون أوصياء على أنفسهم، وأمناء على سلوكهم وأخلاقهم، فإذا دخلوا معرضاً كبيراً كهذا، لا يقابلون بمن يتجسس عليهم، ولا تلاحقهم الأعين، ولا تُحصى عليهم خطواتهم، ولا تُعد أنفاسهم، ولا تُحسب عليهم التفاتاتهم وكلامهم مع بعضهم، ولا يقال لهم: لا تقولوا شكراً لبعضكم..!
* كان يمكن لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن تعلن وقف رقابتها على آلاف الناس الذين يرتادون المعرض من مثقفين ومثقفات، وأن تفرِّق بين الطبقة المثقفة في المجتمع، وبقية الشرائح الأخرى في الأسواق العامة على سبيل المثال، وأن تمنع الرقابة (الرديفة)، التي تعتمد المخاشنات، فتثير الشغب، ثم تختفي وسط الزحام كالعادة، فتقوم الهيئة بالتبرؤ منها، لتسجل الحالة ضد مجهول..! وأن تصبح الهيئة جزءاً من هذا الحدث الثقافي الكبير حقيقة، لو اكتفت بجناح يعرض جديدها - إن وُجد - من البحوث العلمية والنفسية والاجتماعية والحقوقية الجادة، التي تقرب بين موظفي الهيئة والمجتمع، وتجعل من وظيفة الحسبة، جسراً للتواصل بين هذا الجهاز وجميع المواطنين، خلاف ما شاهدناه في جناح الهيئة، الذي راح يعرض على الزوار طيلة أيام المعرض، ملابس نسائية، وقمصاناً وأحذية، وكميات من الخرز والقلائد والشعر والطلاسم، وكذلك الحديث المكثف عن السحر والسحرة، وكأن المواطنين في هذا البلد الأمين، كلهم أغبياء، وكلهم بلهاء، وكلهم ممن يتساحر فيسحر، وكأن لا قضية لهذا المواطن المسكون بالإيمان بالله منذ نعومة أظفاره، إلا خادمة تسحره، أو مشعوذ يستولي على ممتلكاته.
assahm@maktoob.com