منح الله معالي الدكتور - مع علمه وسعة اطلاعه - تواضعاً وأدباً جمّاً؛ فقد عُرف عنه الحزم والجدية في العمل، كما كان في تعامله وفياً ومخلصاً، وفي تتبعه لما يدور في الساحة دولياً ومحلياً مدركاً.
أما الميدان الثقافي والمشاركات الأدبية فإنّ قلمه لا.....
..... يجف، ولا يتوانى عن المساهمات الكثيرة، على المستويين المحلي والخارجي؛ فقد أثرى الساحة بمؤلفاته العديدة، ذات الرصافة والموضوعية، على المدى الطويل، متعه الله بالصحة والعافية والنشاط.
ففي الأدب والتاريخ لديه التزام مستمد من قاعدته الدينية وتربيته الأولية، وفي العرض الثقافي يحرص على رصانة اللغة العربية، وفنونها البلاغية، وفي العلاقات يهتم بتمكينها، وتوسيع دائرتها؛ ولذا كثر محبوه، فلا يجرح شعوراً، ولا تبدر منه نابية، بشوش الوجه، طلْق المحيا، يدرك دلالة الحديث ويطبقه: (لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بحسن الخلق). يقدّر الناس، وينزلهم منازلهم: معاشرة وكتابة؛ ولذا فإنه يستحق وبجدارة التكريم في الجنادرية كشخصية ثقافية في المهرجان الوطني الرابع والعشرين (24ج) للتراث والثقافة.
فقد كنت أسير معه على استحياء، في التنويه بما يصدر من كتبه، فاستفدت منها كثيراً؛ لما أجد فيها من الفوائد والتجارب، مع العلم الرصين والمعرفة الواسعة، والتمكن اللغوي، والابتعاد عن الإغراب والحوشي، ذلك أن مؤلفاته الكثيرة، ذات موضوعية ورصانة، خاصة في كتابه: سياحة الفكر الجزء الرابع، الذي صدر في طبعته الرابعة عام 1429هـ، الذي تميزت مادته عن غيره، حيث تبرز فيه (الوحدة الموضوعية) كما يسميها النقاد في الأدب العربي، وهي من الأمور المحمودة.
ففيه معلومات بسطها المؤلف، بأسلوب أدبي رفيع، يختلف عما بسطه في الأجزاء قبله، لما برز في الجزئيات الـ(20)، التي هي مادة هذا الكتاب الذي يقع في (381) صفحة عدا الفهارس التي استحوذت على (30) صفحة؛ فهو في كل موقف يخاطب العقول، ويقوّم في أعمال أصحابها، وثمرات ما خطته أقلامهم، فأبدع في ذلك.
وقد أبان الدكتور في كتابه هذا عن الجهد المبذول، والدعوة إلى مسار ثقافي مهم، لما وراءه من فوائد علمية وثقافية، وإثراء للكتاب بما يفيد الأجيال القادمة، ويبين هذا في قوله في المقدمة: هذا هو الجزء الرابع من كتابي (رصد لسياحة الفكر) الذي جمعت فيه ما كتبته، من مقدمات لكتب أحسن أصحابها الظن بي وشرفوني بكتابتها، تقدمه لكتبهم، و دراسات لكتب نشرت فقرأتها، وأوحت لي ببعض الأفكار عنها، فكتبتها ونشرتها.
ووراء جميع هذه المقدمات، وهذه الدراسات في كتاب، فكرة غزت فكري، وسيطرت على ذهني، واستولت على زواياه، آمنت بها، وتأكدت من فائدتها، فرحتُ أخرجها، من حيز الفكر إلى صفحات الورق، وأخذت أدعو لتبنيها، وأحث على اتخاذها نهجاً موصلاً لغاية مفيدة، وأملت أن ينهج غيري، ممن تستقطبه هذه الفكرة، وأن يسير في جادتها، حتى يحفر هو وغيره سبلا محمودة في إبقائها حية نشطة، ولم أتقدم بهذه الدعوة وأقدم على هذا النهج، إلا لأني أدركت الفائدة للقارئ والكاتب، فهي نجدة للباحث، وعضد لطالب المعرفة، وميسرة لاجتيازها، فهي من الفنون التي احتوت عليها.
ففيها جمع شتات لما هو مفرّق، في الصحف والمجلات، أو جاء حسب المناسبات والأحوال من كلمة في ندوة، أو بحث في مؤتمر.. وتأكيدا للنفع واكتمال الفائدة، تبنيت تصنيف الكلمات، فنوع منها خرج بعنوان (بعد القول قول)، وآخر تحت عنوان: (السلام عليكم)، أما النوع الثالث فقد جاء بعنوان (رصد لساحة الفكر). (من المقدمة ص5- 7) فهذه منهجية متميزة منه.
وموضوعات المادة، قد حظي كل واحد منها، بدراسة جيدة، وهذه الدراسات إما مقدمات لكتب قبل طبعها، أو نظرات في كتب طبعت وظهرت، وقرأها المؤلف وأعجبه ما فيها، ورأى فيها فائدة للقراء، فأبدى لهم رأيه، علهم يجدون الوقت ليتمتعوا مثلما تمتع (وقد أبدى رأيه هذا على الغلاف الخارجي لكتابه).
وموضوع الكتاب الأول: كتبت في 12-9- 1425هـ مقدمة لديوان شعر عنوانه (من النوادر) للشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي، رجل الأعمال الذي يتوقع كثير من الناس أن مثله يكون مشغول الذهن والجسم بأعماله التجارية ولا يلتفت إلى رفاهية الفكر، لكن معاليه عندما سار مع هذا الديوان، أُعجب به، وتمثلت له لفتات من هذه النوادر: وفاء من الشاعر لشريكة حياته، فكان شعره منبعثاً من الشعور، فالشاعر محمد يجد لذة في أن يعيد ويكرر، بصورة مختلفة أجناساً وأنواعاً من الشعور.
وقد برز لمعاليه في دراسة شعر السبيعي أغراض تحوم حول الأسرة منها: حبه المنقطع لزوجته أم أولاده، واعترافه بخصالها الحميدة معه، ثم حبه لأخيه الذي شاركه مشوار الحياة، واعتزازه وحبه لأولاده، ورعايتهم ونصحهم، وحرصه على تعليمهم، واهتمامه بصلة الرحم، فكانت أغراضه منبعثة من إدراكه الواجب الديني لأقرب الناس، حتى يحصل التآلف وتنظيم العشرة في جوّ تظلله الألفة والمحبة.
ومن العرض الذي استحوذ على (90) صفحة من الكتاب، يدرك القارئ من الشواهد الشعرية، والكلمات المنتقاة، تذوق الدكتور عبدالعزيز لهذا النوع من الأدب المستمد من البيئة، وانسجامه معه، علاوة على اهتمامه بفنون هذا الشعر، مثل المراد والإهداءات، ومع الإطالة في العرض، إلا أنه اعتبر ما كتب عجالة، كان يتمنى التحدث عن صفات عرفها في أبي إبراهيم (ص19 - 108).
أما موضوعه الثاني فعن مقدمة كتبها في 29-3-1425هـ لكتاب عنوانه: (هؤلاء مروا على جسر حياتي) لعلوي طه الصافي، حيث يرى أن المؤرخ يبتهج عندما يرى مصدر تاريخ، يتحدث عن شخص بعينه، وتزيد بهجته عندما يعرف أن كاتب السيرة معاصر لمن يكتب عنه، فكانت فرحته من كتاب الأستاذ علوي الصافي، عن بعض الأشخاص الذين وجد أن حياتهم مهمة، لمشاركتهم في مجال من المجالات المهمة في البلاد (ص109-117).
أما الأستاذ إبراهيم محمد الحسون، فقد حلق المؤلف معه، في مقدمة كتابه القيم (ذكريات وخواطر) (1424هـ)؛ لأنه مليء بالصور المعنوية المفيدة، الواضحة فيما تمثله، من حياة فرد عاش في القرن الهجري المنصرم، ترمز لحياة الطالب المتشوق للعلم، فينظر إليه من بعيد، ثم يقترب لينهل بمقدار ظروف أسرته، وحُكم عصره، في صور عديدة من حياة صاحب الكتاب من الطفولة ثم التدرج الطموح، في عصامية بدأها مع مسيرة حياته التي سارت في سبع صور في مشواره وكفاحه مع تطور حياته (ص109-126).
وفي المقدمة لكتاب مسيرة التعليم في منطقة للجوف، للأستاذ إبراهيم بن خليف، الذي كتب له هذه المقدمة، في 2-7-1427هـ فأثنى عليه، ومدح جهده، في تتبعه لمسيرة التعليم في الجوف، منذ الكتاتيب، فقد استنتج الدكتور أن المؤلف كان يدون خطوات التعليم، أولاً بأول، ونظم هذه المسيرة، في خمسة أبواب أعطى كل باب ما يستحق، وختمها بالملاحق (ص127- 146).
وعن مقدمة (شعراء عنيزة الشعبيون)، التي كتبت في الجزء الأول بتاريخ 21-5-1395هـ ثم أعيدت كتابتها في 25-8-1403هـ وظهر الكتاب في عام 1404هـ، وهو من جمع عبدالرحمن بن عقيل المحمد وسليمان الهطلاني، فقد بيّن مكانة هذا الشعر، لتعلقه في الأذهان وأن له عشاقه لأنه نابع من الحياة، ويسجل وقائعها الشعبية، وقال: إن الشعر العامي لن يزاحم الشعر الفصيح، لكنه نائب عنه في الأماكن التي خلا منها، فهو نائب مؤقت، مع أنه قد ذكر شيئاً من فوائده، وبعض ما يستحسن منه (ص147- 181).
وقد وقف معالي الدكتور عند كتاب (الطبريون: مؤرخو مكة)، فأثنى في مقدمته المكتوبة في 8-8-1425هـ الطبعة الأولى، على المؤلف د. سليمان بن عبدالغني بن محمد جمال مالكي، فهو من بيت علم معروف، ومشهود لبعض سلفه بالتبريز في العلم، ولا غرو أن يسير في الطريق الذي ساروا فيه، ويتميز عنهم في المفاجأة، بأبحاث لم يتطرق إليها أحد، وبموضوعات قد لا يعرفها إلا القليل من المتخصصين، ولمح إلى السنوات القتام، التي مرت بمكة، وحمّل إثمها على الحكام، وما كان بينهم من تنافس وأحقاد.
وقد نسب الطبريين إلى طبرستان، وليس إلى طبرية، وتحدّث عن أول من قدم منهم إلى مكة، لكنه لم يحدد سنة ثابتة، وبيّن اختلاف النسب بينهم، ودخل في تفصيل نسب كل عالم منهم، وتحدث عن النساء العالمات منهم، وما لهن من دور بارز؛ إذْ كل عالم زوجته عالمة مثله (ص193-208).
وهكذا لو سرنا معه في هذه المقدمات، والتعريف بالكتب، فإن ما أورده مشوّق للقارئ، وفيه من التعريف ما يزيد حصيلة القارئ، ويدفعه للزيادة، لأن ذلك يقرب القول السائد: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال.
بين عبدالملك وعمرو بن سعيد
لما أراد عبدالملك بن مروان الخروج إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير، وأخذ في جهازه، أقبلت عاتكة بنت يزيد امرأته في جواريها، وقد تزينت بالحلي، فقالت: يا أمير المؤمنين لو قعدت في ظلال ملكك، ووجهت إليه كلباً من كلابك لكفاك أمره، فقال: هيهات، فلما أبى عليها وعزم، بكت، وبكى معها جواريها، فقال عبدالملك، قاتل الله ابن أبي ربيعة كأنه ينظر إلينا في شعره، ثم خرج يريد مصعب، فلما ابتعد عن دمشق مسيرة ثلاث مراحل، أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، فقيل له: أهل الشام أصعب عليك أشدّ عليك من أهل العراق، فرجع وحاصر أهل دمشق حتى صالح عمرو بن سعيد، على أنَّ الخلافة بعده له، وأن له مع كل عامل عاملاً، ففتح له دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو بن سعيد، فأرسل إليه عبدالملك: أن أخرج للحرس أرزاقهم، فقال: إذا كان لك حرس، فإن لنا حرساً أيضاً: فكرّر عليه عبدالملك. وأبى. فلما كان يوم من الأيام أرسل عبدالملك إلى عمرو بن سعيد، نصف النهار أن ائتني أبا أمية، حتى أدبر معك أموراً، فقالت امرأته يا أبا أمية، لا تذهب إليه، فإنني أتخوف عليك منه، فقال: والله لو كنت نائماً ما أيقظني، قالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم مسبوح، فما زالت به، حتى ضربها بقائم سيفه، فشجها.
فخرج وخرج معه آربعة آلاف، من أبطال أهل الشام الذين لا يُقدر على مثلهم، مسلحين فأحدقوا بخضراء دمشق، وفيها عبدالملك، فقالوا: يا أبا أمية، إن رابك ريب فأسمعنا صوتك، ثم دخل فجعلوا يصيحون يا أبا أمية، أسمعنا صوتك، وكان معه غلام سحم شجاع، فقال له عبدالملك: اذهب إلى الناس، فقل لهم ليس عليه بأس، ثم قال: أمكراً عند الموت يا أبا أمية، خذوه فأخذوه، ثم قال له عبدالملك: إني أقسمت إن أمكنتني منك يد أن أجعل في عنقك غلّ، وهذا غلّ من فضة أريد أن أبرّ بها قسمي فوافق عمرو، ثم جذبها بشدة، فجعل عبدالملك ينظر إليه بعدما انكسرت ثنيّته، قال عمرو: عظم انكسر، وجاء المؤذنون، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين لصلاة الظهر، فقال لعبدالعزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع من الصلاة، فلما أراد عبدالعزيز أن يضرب عنقه، قال له عمرو: نشدتك الرحم يا عبدالعزيز، ألا تقتلني من بينهم، فجاء عبدالملك فرآه جالساً، فقال: مالك لم تقتله؟ لعنك الله، ولعن أماً ولدتك.
ثم قال: قدّموه لي، فأخذ الحربة بيده، فقال: فعلتها يا ابن الزرقاء، فقال عبدالملك: إني لو علمت أنك تبقى ويصلح لي ملكي لفديتك بدم الناظر، ولكن قلما اجتمع فحلان في ذَوْد إلا عدا أحدهما على الآخر، ثم رفع عليه الحربة فقتله، وقعد يرعد، ثم أمر به فأدرج في بساط، وأدخل تحت السرير، وأرسل إلى قبيصة بين دؤيب الخزاعي، فدخل عليه.
فقال: كيف رأيك في عمرو بن سعيد الأشدق؟ فقال - وقد أبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير -: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين، واطرح رأسه، وانثر على الناس الدنانير، يتشاغلون بها، ففعل وافترق الناس. (الأمالي للقالي 1-14).