حطت عاصفة رملية رحالها بأرض المملكة متنقلة من منطقة إلى أخرى حتى لا تكاد بقعة من بقاع المملكة تسلم من ملامسة حبيبات رمالها الذهبية التي أصابت بها البشر والشجر والحجر، وزيارتها معتادة عدة مرات في كل عام، وهي هذه المرة شأنها شأن غيرها من الزائرات الكثيفات في كل عام.
وما أطرحه وأتساءل عنه: هو عدم التنبيه عنها قبل وصولها بفترة كافية حتى يمكن تقليل الضرر الناجم عنها، وربما كان هناك سبب مقنع حال دون ذلك، حيث إن التنبيه عبر التلفاز لم يتم إلا بعد حلولها بأرض مدينة الرياض بساعات حسب علمي، ولعلني مخطئ فيما ذكرت فأحمل نفسي خطأ متابعتي بدل تحميله الآخرين.
وحلولها صاحبه الكثير من حوادث السير بسبب ضعف الرؤية، أو انعدامها، غير أنها اجتازت المدينة إلى غيرها بعد أن خلفت ما خلفته من أكوام رمل غطت الشوارع والمنازل، ونال مرضى الربو منها نصيبهم من صلفها شفاهم الله برحمته ورضوانه.
وصاحب هذه العاصفة اتصالات هاتفية من المدارس أو التلاميذ إلى أولياء الأمور مناشدينهم التوجه إلى المدرسة لأخذهم بأسرع حال إلى منازلهم، فكان تسابقاً محموماً نحو الذهاب إلى المدارس لإحضار الأبناء والعودة بهم إلى منازلهم، كما أن القليل من التلاميذ قد أخذ من تلك العاصفة عذراً للركون إلى الراحة، وعدم الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي خوفاً من حدوثها مرة أخرى، ولاسيما أن يوم الأربعاء يليه عطلة نهاية الاسبوع.
هذا النهج من التلاميذ وأولياء الأمور ذكرني بحديث مع أحد اليابانيين الذين زاروني في مكتبي عندما كنت أعمل في المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق، فدار حديث بيننا عن حضارات العالم وتباين المفاهيم التربوية والإنتاجية والثقافية، وسألته سؤالاً كنت حريصاً على أن أحصل منه على جواب شاف، فقلت: لماذا هذا التقدم التقني لديكم، وعدم حلوله بأرضنا العربية؟ فأجابني قائلاً: الأمر بسيط جداً، ففي اليابان عندما ينزل الثلج أو تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر تلبس السيدة اليابانية أبناءها ملابس كافية لوقايتهم شدة البرد ثم تأمرهم بالذهاب إلى المدرسة، وعندما ترتفع درجة حرارة أحد الأبناء إلى نحو 38 درجة أو أكثر قليلاً فإن السيدة اليابانية تعطي ابنها دواء وتقول له: اذهب إلى المدرسة، وواصل تعليمك ولا يثنيك عنه شدة برد أو ارتفاع حرارة.
توقفت كثيراً عن إجابته الرمزية، وفطنت لغاية رسالته التي أومأ إلي بها لتفسير وصول دول لتغيير وتقدم تقني وتأخر دول أخرى عن ذلك.
ذكرتني تلك العاصفة الرملية بذلك الحديث الذي دار بيني وبين ذلك الياباني، وراجعت ما قال وما قام به بعض من التلاميذ وأولياء الأمور فتوقفت عند البون الشاسع في مفهوم التربية وتطبيقاته.
ليست الغاية هي ذهاب التلميذ من عدمه وحسب، وإنما الهدف التربية على عدم ترك الواجب مهما كانت الموانع، وحمل النفس على تحمل المشاق في سبيل الوصول إلى الغاية، وعدم تلمس الأعذار لتأخير الأعمال، فإن تقدم الشعوب يبنى على تجمع هذه النشاطات البسيطة لأبنائه فتتراكم لتكون إنتاجاً متكاملاً لشعب بأجمعه، وعندما يؤخر كل واحد منا عملاً ما فهذا يعني تأخر إنتاج مجتمع وتخلفه عن اللحاق بغيره من المجتمعات التي اعتادت على الإنجاز في الوقت المحدد دون تأخير.
أذكر أنني أردد مع بعض الأصدقاء تلك المقولة المتداولة وهي أن بعض المجتمعات تستخدم نظام (IBM) أي، بي، ام، وكلنا نعلم أن شركة IBM شركة مشهورة معلومة، غير أن بعضهم أخذ رموزها فأسقطها على مفهوم آخر ترمز لI بجملة (إن شاء الله) وB بكلمة (بكرة) وM بجملة (ماعليش) فأصبح الرمز يعني إن شاء الله، بكرة، ما عليش.
وأن هذا المفهوم إذا تبناه مجتمع بعينه فقد أعلن تخلفه عن اللحاق بالمجتمعات المتقدمة تقنياً وصناعياً.
وكلمة (إن شاء الله): كلمة حق، نؤمن بها إيماناً لا لبس فيه، ومن المؤسف أن يصبح مفهومها التطبيقي خلاف المراد منها، وأما كلمة (بكرة): أي غداً فهي كلمة دارجة على ألسن بعض المجتمعات، فمن اليسير لدى فرد أوكل له عمل أن يقول غداً دون عناء، وهو لا يعلم أو ربما يعلم أن هذه الكلمة ستجلب الضرر على المجتمع بأسره وأن تطبيقها يعني تأجيلا مستمرا لعمل يمكن انجازه في حينه، ويترتب على ذلك تأخر المجتمع.
وأما جملة (ماعليش) رمز لطلب التسامح، غير أن تكرار الأخطاء والتغاضي عنها بجملة (ماعليش) تعتبر مأساة كبرى مما يعني عدم إتقان العمل، والعمل أمانة وإتقانه واجب لا مراء فيه، فإذا عملنا بكلمة (بكرة) وجملة (ماعليش) فقد جمعنا تأخير العمل مع عدم إتقانه، فإن كان الأمر كذلك فبربي وربكم.. كيف لمجتمع يتعامل بهاتين الجملتين أن يساير غيره من المجتمعات.
لست أدري!!!