كنت في الأسبوع الماضي مشاركاً في ندوة عقدها في عمان منتدى الفكر العربي تحت هذا العنوان، الذي هو عنوان هذه المقالة. وكان من يُمْن الطالع، ومما زاد صدري انشراحاً، أن وصولي إلى العاصمة الأردنية الجميلة تزامن.....
|
..... مع هطول أمطار غزيرة على الأردن. وكان نزول الغيث على أهله من بعد ما كاد يقنط من نزوله -هذا العام- كثير منهم. لكن الله - سبحانه- نشر رحمته على عباده فإذا هم ما بين غمضة عين وانتباهتها قد استبشروا بهذه الرحمة؛ فالحمد لله الذي لا تعد نعمه ولا تحصى.
|
وقبيل بدء جلسات الندوة المشار إليها عقد مؤتمر في شرم الشيخ حول إعادة إعمار غزة، التي ارتكب الصهاينة ما ارتكبوا ضدها من جرائم فظيعة، تقتيلاً وتدميراً. وما هذه الجرائم إلا حلقة في سلسلة إجرام ظل هؤلاء المجرمون يرتكبونها أكثر من ستين عاما. وكان أوسع نطاق لها عند إنشائهم كيانهم العنصري على أرض فلسطين المباركة. وقد اعترف أحد أركان تأسيس هذا الكيان، وهو بيجن، في كتابه الثورة بأن الإرهاب كان السلاح الأكثر مضاء وتأثيراً في تأسيس الكيان الصهيوني العنصري، وفي (زمان العجايب) الذي نعيش فيه، لم يكن غريباً أن فاز المعترف بارتكاب الإرهاب، المفتخر بارتكابه، بجائزة نوبل للسلام. ولقناة الجزيرة يد طولى مقدَّرة كل التقدير في إسهامها تبيان كثير من جرائم الصهاينة، ماضياً وحاضراً. ولقد أعلن في مؤتمر شرم الشيخ ما أعلن من رصد تبرعات فاقت توقعات البعض. وكل من تبرع مشكور على تبرعه، لكن كان متوقعاً من المؤتمرين أن يحملوا المجرمين الذين ارتكبوا جرائم التقتيل والتدمير مسؤولية هذه الجرائم، معنوياً ومادياً، أما أن تبدو الأمور وكأن المجرم لا يسأل عن جريمته؛ فهذا ما يحزُّ في النفس ويتنافى مع المنطق والعدل، لكنه -هو الآخر- ليس غريباً في (زمان العجايب)، الذي استمرأت فيه أمتنا الذلَّ، وأدمنت الهوان.
|
ومن المعروف أن حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة؛ أياً كانت انتماءاتها الحزبية، قد صادرت أراضي فلسطينية كثيرة نتيجة حرب 1967م، وأقامت فوقها مستعمرات لجماعات صهيونية، سعياً منها لتهويد تلك الأراضي وإخلائها عنصرياً من أهلها الأصليين. وما كانت اتفاقية أوسلو، التي أمَّل فيها من أمَّل ممن يلهثون وراء سراب المفاوضات بين الفلسطينيين وغيرهم من إخوانهم العرب إلا محطة استخدمها قادة الصهاينة أبرع استخدام لمواصلة تهويد الأراضي الفلسطينية المحتلة وتكثيف هذا التهويد، ومن الواضح الجلي أن أعداد تلك الأراضي المصادرة والمستعمرات الاستيطانية التي أقيمت فوقها قد ازدادت أضعافاً مضاعفة، وأن ما لم يصادر من أراضي الضفة الغربية الفلسطينية- بما فيها القدس- قد مزق إرباً داخل جدار فصل عنصري. وكل هذا مما يثير سؤال كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: أين ستقوم الدولة الفلسطينية، لو فرض أن وافق على قيامها أعداء أمتنا من الصهاينة والمتصهينين؟
|
كل من هؤلاء وأولئك أياً كان حكام الصهاينة يمينيين أو غير يمينيين، وأياً كان حكام المتصهينين، وبخاصة قادة أمريكا جمهوريين أو ديمقراطيين، متفقون من حيث المبدأ على أنه لا عودة إلى حدود عام 1967م. ولا أظن أنهم مختلفون حول بقاء جدار الفصل العنصري، ولا حول بقاء المستعمرات الاستيطانية الصهيونية الممزَّقة لأراضي الضفة الغربية. بل قد يسأل من يسمع ويرى، سمعاً مركزاً ورؤية متأملة، هل سيسمح لرئيس تلك الدولة، التي تشير إلى تمسكها بقيامها الإدارة المتصهينة ذات السيادة الواقعية على مصائر كثير من أقطار أمتنا بدرجة ربما يعرف مداها زعماء هذه الأقطار أكثر من غيرهم، والتي يتوقع أن تكون بمثابة حارس بالوكالة لأمن الصهاينة ضد مقاومة الفلسطينيين المتمسكين بحقهم في تحرير وطنهم؛ أهلاً وأرضاً وتراثاً... هل سيسمح له بأن يتحرك من مكتبه- وربما من منزله- بدون موافقة الضابط، أو الجندي، الصهيوني الموكل بمراقبته؟
|
وفي أثناء انعقاد ندوة (القدس في الضمير)، التي سبقت الإشارة إليها أعلن اليهود المنادون بقبول السلام بين الفلسطينيين واليهود المحتلين لفلسطين أن زعماء الصهاينة قد خططوا لبناء أكثر من سبعين ألف وحدة سكنية بينها أكثر من أحد عشر ألف وحدة في القدس التي وسع المحتلون من الصهاينة مساحتها أضعافاً عما كان عليه في عام 1967م جاعلين هذا التوسيع متزامناً مع هدم منازل أهلها من الفلسطينيين وإرغامهم بمختلف الوسائل على مغادرة الأرض التي توارثوها أبا عن جد. ولم ينقض زمن انعقاد تلك الندوة إلا وقد أوضحت وسائل الإعلام المختلفة ضم دفعة جديدة من الأسر الفلسطينية المقدسية إلى دفعات سبقتها، فرادى أو جماعات، لتغادر منازلها وأرضها قسراً كي يحل محلها بناء وحدات سكنية لصهاينة أتوا من شتى بقاع العالم بكل ما يتصفون به من أحقاد وعدوانية.
|
وإضافة إلى ذلك، أوردت وسائل الإعلام أن الصهاينة بصدد حفر نفقين جديدين تحت المسجد الأقصى. وما دام تهويد القدس وما حولها هدفاً واضحاً لهؤلاء الصهاينة فإن تهويد تلك المدينة، التي هي مسرى نبينا محمد، -صلى الله عليه وسلم- بإخلاء أهلها من العرب والمسلمين بمختلف الوسائل سيكون من وسائله بذل الجهود الماكرة الخبيثة لزعزعة أركان ذلك المسجد، الذي هو ثالث ثلاثة مساجد لا تشد الرحال في الإسلام إلا إليها تعبداً إلى الله سبحانه. وإذا زعزعت الأركان فإنه لا يستبعد أن يرى تهدُّم، أو تهديم، ما فوقها، وبخاصة أن أكثر زعماء أمتنا -مع الأسف الشديد- في واد والأخطار التي تواجهها في واد آخر بل إن المرء لو انساق مع عدم تفاؤله - بناء على ما يراه - لخطر بباله أن يسأل: ماذا سيكون رد فعل هؤلاء الزعماء لو فوجئ الجميع بإقدام الصهاينة على ارتكاب هدم المسجد الأقصى أو هدم أجزاء منه؟
|
وفي أثناء انعقاد تلك الندوة المقدسية الموضوع أوردت وسائل الإعلام أيضاً خبر قرار المحكمة الجنائية الدولية حكمها باعتقال الرئيس السوداني لمحاكمته، وكل من له معرفة بالقوانين الدولية يدرك أن ذلك القرار مبني على أسس واهية، قانونياً، وأنه لا يعدو أن يكون إضافة نوع آخر من أساليب معاداة أمتنا عربية أو إسلامية، وكل من له متابعة متأملة في تاريخ المنظمات الدولية، التي تسيرها الإدارات الأمريكية المتصهينة وفق إرادتها، يدرك تمام الإدراك أن تلك المنظمات لم تكن عادلة في قراراتها إذا كان المستهدف طرفاً عربياً أو إسلامياً. وسكوت هذه المنظمات عن الجرائم الفظيعة التي ظل الصهاينة يرتكبونها طوال ستين عاماً، وأمثلة الجرائم البشعة التي ارتكبها المتصهينون في أمريكا، وبخاصة في السنوات الأخيرة بأفغانستان والعراق، دليل واضح كل الوضوح على ما سبقت الإشارة إليه. وكنت قد ألمحت إلى تحكم أمريكا -مثلاً- بمجلس الأمن بأبيات من قصيدة قائلاً:
|
تملك الدنيا وتحكمها |
بعصا الإذلال والدخن |
دولة من كيدها ملئت |
جنبات الأرض بالمحن |
مجلس الأمن الذي زعموا |
حيثما شاءت له يكن |
وألمحت أيضاً، إلى أن مجلس الأمن يستهدف أمتنا بصورة واضحة قائلاً:
|
والسادرون من الحكَّام ما برحوا |
يرجون من سلب الأوطان واغتصبا |
لمجلس الأمن قد مدّوا أكفهم |
ساء المؤمل والمأمول منقلباً |
هل يفرض المجلس الدولي سلطته |
إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟ |
وسيأتي الحديث عن ندوة (القدس في الضمير) في الأسبوع القادم- إن شاء الله- والسلام ختام.
|
|