لازال البعض يروج لتأجيج الخلاف بين فئات المجتمع، ويحاول أن يضع أطراً دينية أو طائفية عند الحديث عن حدود هذا الصراع، وأن يُقحم الصراع الحالي بين قوى الإرهاب في العالم إلى داخل مجتمع القرية والمدينة السعودية، وأن يجعل من الاتحاد العالمي لمواجهة الإرهاب ذريعة للتدخل في حياة المحافظين السعوديين، وهذا استغلال غير بريء، ولا يخدم على الإطلاق استقرار المجتمع..لابد من إدراك حقيقة لا يختلف عليها أحد، وهي أن المجتمع فيه محافظون ومتدينون وأيضاً متحررون بحدود من التقاليد المحافظة..
قرأت عن بعض الاحتجاجات والتحريض المتكرر ضد المحافظين عندما قرر مجلس بلدية منع بيع السجائر في أسواق مدينته، وعندما رفض أهالي عنيزة دخول الموسيقى إلى احتفالاتهم الشعبية،
حسب وجهة نظري لا أجد في ذلك أمراً مخالفاً لنواميس الكون أو للأنظمة والتشريعات المدنية في المملكة، بل أؤكد أن ذلك أمراً يتم احترامه في مختلف الثقافات في العالم، ففي بعض ولايات أمريكا الجنوبية يُمنع بيع الخمور في الأسواق العامة، وعادة ما تحترم الولايات الأخرى والشركات ذلك المنع، ولا يحاول الذين مع بيع الخمور في المحلات العامة التحريض ضد قرار مجلس الولاية المحلي أو اتهامهم بالتطرف والإرهاب..
كذلك هو الحال على الجانب الآخر إذا قرر مجلس بلدية جدة على سبيل المثال افتتاح صالات سينما بناء على قبول اجتماعي لهذا الأمر، فلابد أن نحترم هذا الشأن إذا كان ملتزماً بالآداب والأخلاق العامة.. إذ لا يمكن أن نجعل الناس يعيشون على نمط محدد أو على رؤية أحادية ضيقة في مختلف مناطق المملكة، سواء كانت متشددة جداً أو متحررة جداً، لذلك لابد من البدء في تبني ثقافة تحترم اختيار الناس لأساليب معيشتهم إذا لم تُحدث أضراراً على الآخرين، وإذا كانت غالبية المجتمع المحلي تتقبل هذا الشيء..
ولعل ما حدث من تجربة اجتماعية بعد بدء استقبال البث الفضائي، حيث رفض الكثير هذا الخيار في بداية التجربة، ومع مرور الوقت ظهر البديل الذي يبث قنوات ملتزمة حسبما تطلبه العائلات المحافظة، وهذا خير برهان على قدرة المجتمع على احتواء التغيير، لذا من المفترض أن لا نتجاوز هذه التجربة الحية، بل على العكس يجب تنميتها، وإظهار أن المجتمع قادر على احترام حرية الاختيار للآخرين.. إذا حدث واتفقت الأغلبية في أي مجتمع على قوانين اجتماعية محافظة أو متحررة نوعاً لكن ملتزمة بالآداب العامة..
كذلك ليس من صالح المجتمع أن ينجح خيار القهر وإجبار الآخرين على العيش حسب نمط محدد، ولا يصح حضارياً ودينياً أن تستمر عمليات التفتيش على القهاوي واقتحام المسارح والتلفزيون لفرض أسلوب معين على المجتمع، وهو ما يؤدي إلى أن يرد الآخرون وتبني أساليب التحريض ضد المحافظين إذا قرروا أن لا يبيعوا سجائر في قريتهم أو إذا رأوا حرمة الموسيقى في احتفالاتهم الشعبية..
إذا لم نحترم حقيقة الاختلاف بين الناس، ستظهر ثقافة التحريض، وستأخذ حيزاً من حرية المجتمع، وسيقابلها إصرار آخر على اقتحام خصوصية مجتمعات اختارت نوعاً من الحرية المسؤولة..لذا من المفترض أن لا نسمح للصراع غير المنظم أن يطفو على السطح في المجتمعات الريفية والمدنية، والحل يكون في تقنين هذا الاختلاف، وأن تُمنح المجالس البلدية دوراً في تنظيم بعض المظاهر الاجتماعية في القرى والمدن.. وأن تحاول عكس رغبة المجتمع فيما يريده على وجه التحديد.. ومع مرور الوقت سيكون هناك فرز لخيارات المواطنين، وقد ينتقل بعضهم من مكان إلى آخر للبحث عن نوعية الحياة التي يرون فيها راحتهم وخيارهم.. وهكذا.
مهما ازدادت حدة الصراخ، يجب نتقبل أن مدينتي جدة والخبر أكثر تحررا وتقبلاً للتغيير من غيرهما من مدن المملكة، وإذا رغب سكانها افتتاح صالات سينما فلا يجب الوقوف ضد هذه الرغبة، كذلك يجب نتفهم منع بيع السجائر مدينة بريدة، ومنع الموسيقى في احتفالات عنيزة، ويجب أن نحترم رغباتهم المحافظة.. بينما ستكون الرياض المدينة المرشحة لأن تكون ساحة الاختلاف المقنن بين فئات المجتمع، وعلى أي صفة يجب أن تكون.. بين جدة المتحررة وبريدة المحافظة..