Al Jazirah NewsPaper Monday  09/03/2009 G Issue 13311
الأثنين 12 ربيع الأول 1430   العدد  13311
ماركس يرعب وول ستريت والماركسية ترعب الرأسمالية من جديد!!
د. عبدالرحمن الحبيب

 

(مالكو رأس المال سيُحفزون الطبقة العاملة للشراء أكثر فأكثر من السلع الغالية والمنازل والتقنية، مما يدفعهم لأَخذ أكثر فأكثر ائتمانات غالية، حتى يصبح دينهم لا يُحتمل. والدين غير المدفوع سيؤدي إلى إفلاس البنوك، مما يدفع إلى التأميم، والدولة ستضطر للتدخل مما يؤدي في النهاية إلى الشيوعية).

هذه الفقرة تُنقل عن كارل ماركس (عام 1867م) في كتابه رأس المال (Das Kapital)، وهي تمثل مذهبه الشيوعي في نظريته المشهورة عن فائض القيمة. وهذه العبارة يتم تناقلها منذ نحو خمسة أسابيع في شبكة النت حول العالم.. ويُذكر أنها أول ما ظهرت كانت في وول ستريت، حيث يُقال أنها انتقلت من شخص لآخر هناك وأثارت ضجة من الجدل والنقاش والرعب بسبب دقة توقعها، ثم شاعت لبقية أرجاء المعمورة.. ومن تلك العبارة تظهر العديد من الأسئلة.

السؤال الأول الذي شغل آلاف النقاشات حول العالم، هو هل صحيح فعلاً أن ماركس كتب ذلك حرفياً، بفس هذه الصياغة، قبل أكثر من مائة وأربعين عاماً، وكأنه يعيش بيننا هذه الأيام من الأزمة المالية العالمية الطاحنة؟ لأنه من الصعب التخيل أن تكون توقعاته بهذه الدقة المذهلة، التي حيرت كثيراً من الاقتصاديين ومنظري رأس المال. والإجابة على السؤال تقول إن نسخ كتاب رأس المال باللغة الإنجليزية لا يوجد بها مثل هذا النص بحرفيته بحذافيرها، ولكن لأن هذه الفقرة تشابه كثيراً ما طرحه ماركس، فإن البعض يعتقد أنها ترجمة مختلفة أو ربما ترجمة ملتوية لكتاب رأس المال عن النسخة الأصلية بالألمانية أو الفرنسية.

وعموماً، من يقرأ كتاب رأس المال سيستنتج بسهولة أن الفكرة الأساسية للفقرة هي موجودة بوضوح في الكتاب، وفي طروحات وبيانات أخرى لماركس. فالجملة الأولى من الفقرة موجودة بصيغ مختلفة وبمواقع عدة من الكتاب في مجلده الأول. أما الجزء الخاص بإفلاس البنوك في الجملة الثانية، فلا يوجد شيء من ذلك في المجلد الأول من طبعة.. Lawrence and Wishart (James Heartfield ؛Bryce Edwards).

ولكن ماركس كتب فعلاً في المجلد الثالث، عن دور الائتمان الذي يؤدي إلى المضاربة في البورصة وتشكل رأس مال وهمي الذي بدوره يقود إلى إفلاس البنوك. وكتب عن كافة أنواع الائتمان، وكان مثاله الأساسي هو دور الائتمان في الأزمة الاقتصادية خلال عامي 45 و47 في القرن التاسع عشر حول تصدير بضائع القطن للشرق الأقصى. يقول ماركس: (من المثير أن الأزمة تم تجنبها عبر تعطيل القانون البنكي للحد من المال الذي يمكن لبنك إنجلترا إصداره). صفحة 408.

وإذا انتقلنا لسؤال آخر.. لماذا هذا الاهتمام المبالغ فيه بهذه الفقرة؟ وهذا يقودنا لسؤال أعم، وهو لماذا عودة الاهتمام بمؤلفات ماركس، حيث بدأت دور النشر تطبعها بعشرات الآلاف من النسخ، وهناك إقبال متزايد عليها، كما أن هناك توسعاً متنامياً في شبكة الإنترنت حول موضوعات ماركس والماركسية.. الإجابة ببساطة هو أنه لا يلوح في الأفق أية بوادر انفراج للأزمة المالية العالمية.. ولا يبدو أن هناك حلولاً ناجعة.. ولا يبدو أن هناك تفسيرات مقنعة لما حصل..

إذن، نحن في متاهة وحيرة، وماركس قبل قرن ونصف القرن، توقع سقوط الرأسمالية وقيام الاشتراكية. ولم يكتف بمجرد التوقع، بل ادعى أن نظريته علمية، لذلك سماها الاشتراكية العلمية، تمييزاً لها عن الاشتراكيات السابقة التي يرى أنها طوباوية (خيالية)، تريد الخير والعدالة الاجتماعية ولا تمتلك أدوات التغيير. ولأن اشتراكية ماركس علمية فهي في نظره حتمية تاريخية، بمعنى أنها لا بد أن تقع، ولا يمكن تفاديها، إضافة إلى أنها تسعى للعدالة الاجتماعية كخير للبشرية..

وبعد نحو نصف قرن، صدقت توقعات ماركس، بسقوط القيصرية الروسية وقيام اتحاد جمهوريات السوفييت الاشتراكية، رغم أن توقعاته كانت حول بريطانيا أو ألمانيا، أي حول دول رأسمالية متطورة صناعياً، وليس دولة زراعية ما قبل رأسمالية.. والمهم أنه بعد ذلك تساقط تباعاً كثير من الأنظمة الرأسمالية (أو إذا شئنا الدقة نقول الأنظمة ما قبل الرأسمالية) وقامت على أنقاضها أنظمة اشتراكية، حتى وصلنا في منتصف القرن العشرين وكان أغلب سكان المعمورة يعيشون في ظل الاقتصاد الاشتراكي أو الموجَّه.

وكان بعبع الشيوعية هو أكبر تهديد للرأسمالية، فالماركسية تدعي العلمية وكانت تُصرُّ على أن توقعاتها حتمية (كقانون علمي) لا بد أن تقع.. ونجحت توقعاتها! أليس هذا مخيفاً؟ حتى أن هذه الدول الرأسمالية، عدلت كثيراً من أنظمتها، وحتى بات البعض يشك في رأسمالية بعض الدول الرأسمالية العريقة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا من كثرة ما أدخلت على نظمها الاقتصادية الاجتماعية من تعديلات اشتراكية لمزيد من العدالة الاجتماعية.. ولكن لم يكد يمضي سبعون عاماً على قيام الاتحاد السوفييتي إلا وانهار من الداخل، وتلاه تساقط متتابع للأنظمة الاشتراكية، مما جعل الكثير ينظر إلى الماركسية والاشتراكية نظرة إشفاق وتهكم على نظرية اقتصادية اجتماعية بائسة خائبة، صادرت الحريات من أجل المساواة، وانتهت بافتقادها للمساواة والحرية معاً..

منذ ذلك الحين أصبحت الماركسية مجرد تاريخ رومانسي من جهة النظرية الفكرية وتاريخ دموي من جهة التطبيق السياسي، وأصبح لا علاقة لها لا بالفكر الحاضر.. وأصبحت الرأسمالية هي الوحيدة المقنعة لغالبية الشعوب والمسيطرة على الساحة العالمية، وبدأت نظم العدالة الاجتماعية تتراجع، وازدادت حدة الفروقات بين الأغنياء والفقراء.. وانحسر تدخل الدول في الاقتصاد شيئاً فشيئاً، وصار أصحاب رؤوس الأموال هم صُناع القرار الفعلي.. حتى قبل بضعة أشهر، حين بدأت الأزمة المالية العالمية وانهار سوق الأسهم..

لقد مضى النظام الرأسمالي بعيداً في تراكم الأموال الوهمية وبعيداً في أخطائه.. مثل هذه العبارة يرددها أغلب منظري الرأسمالية منذ بدأت الأزمة وما صاحبها من خوف وقلق على النظام الرأسمالي برمته.. ومن هنا صار لمؤلفات ماركس أهميتها الخاصة رغم عدم صحة بعض توقعات ماركس الأساسية مثل سيطرة الطبقة العاملة وسقوط الطبقة البرجوازية، ورغم سقوط الاشتراكية وتحولها إلى الرأسمالية بينما ماركس توقع لها أن تتحول إلى الشيوعية..

ومن المثير للانتباه أن نذكر أن البعض يعتقد أن ترويج تلك الفقرة التي في مقدمة المقالة، هي محاولة تحذيرية مقصودة من اليمين الرأسمالي لتأليب الرأي العام والكونجرس الأمريكي ضد تدخل الدولة في حل الأزمة، وضد ما يطرح من أفكار حول التأميمات، باعتبار أن ذلك يتنافي مع مبادئ الرأسمالية، وباعتباره طريقاً يؤدي في النهاية إلى الشيوعية كما هو واضح من صياغة الفقرة في المقدمة، رغم عدم صحة نسبة تلك الفقرة بهذه الصيغة لماركس..

أفكار ماركس كانت ولا تزال مثيرة للجدل، وإذا كانت أفكاره الاقتصادية تراجعت لدرجة النسيان ثم عادت للمقدمة، فإن أفكاره الاجتماعية كانت ولا تزال في مقدمة الأفكار الجدلية فلسفياً وثقافياًً..



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد