لم تكن ضرورة الحديث عن العناية بالصحة أمراً ملحاً فيما مضى كما هو الآن، فالبيئة غير البيئة، والغذاء غير الغذاء، وطبيعة الحياة مختلفة بتعقيداتها وتداخلها وضغوطاتها.
وكم جعلنا ذلك نرى ما نراه من الإقبال الشديد من عموم الناس على العناية بالصحة واستنقاذ الجسد من التوابع السلبية للحضارة، فلكل مكتسبات هذه الدنيا ثمن يدفعه الإنسان بطريقة قل من يدركها غالباً.
الجسد وعاء الروح، ذلك الذي يرى البعض أن الاهتمام به ضرب من ضروب المادية والابتعاد عن الهدف الذي من أجله خلق في هذه الدنيا، وهذا غير صحيح.
صحيح أن الجسد في النهاية إلى الفناء والاضمحلال، وصحيح أن احتياجاته الفطرية الملحة إنما وجدت لبقاء بني الإنسان يخلف بعضهم بعضاً، إلا أن العناية به وبصحته أمر محمود طالما كان بلا مبالغة وتواكب مع تزكية النفس التي قد أفلح من زكاها.
وكم نرى حولنا موفقين قد علموا أن العناية بالجسد طريق -بعون الله- إلى القوة التي يستغنون بها عن الخلق وطريق إلى عمارة الدنيا بالسعي فيها والآخرة بالعبادات الجسدية التي تصاحب العبادات القلبية، بل إن العناية بالصحة دلالة على الحب الصحي للذات، ذلك الحب الذي يدفع صاحبه إلى استنقاذ نفسه من كل نقص يعتريها جسداً وروحاً.
الجسد ذلك الذي يحمل معظم لغات حواراتنا ويعكس بانحناءاته ودقيق تحركاته كل ما يعتري أفكارنا بلغة الجسد التي قلما نتحكم فيها وقلما لا نفهمها فيمن حولنا فرحاً وحزناً، شغفاً وإعراضاً، تقوى وعربدة ورضى وغضباً، وروحاً مطمئنة أو تائهة تتخبط, كل ذلك يعكسه الجسد في كل حركة وسكون فهو ترجمان صادق لا يكذب أبداً على أصحاب الفراسة والملاحظة فضلاً عن الناظر بنظرة عادية تعكس له ظواهر الأمور.
لا تمهل جسدك ولا تنهكه بكثرة الإشباع في كل ما طلب من حاجات وراحة ما يصيبه بالشيخوخة والوهن قبل أوانه.. وقد وضع الطب الحديث اليوم مقاييس لعمر الجسد (العمر البيولوجي) قد تعطيه عمراً يختلف عن ذلك المحسوب بتاريخ المولد. فكم شاب مهمل كسول مدمن على التدخين وجد بعض الفحص أن عمر جسده أكبر من الحقيقة بعشر سنين، وكم من شيخ نشيط قد حرص على نوعية ما يأكل وابتعد في حياته عن كل خبيث كان في قوة الشباب وجلدهم.
لست أقول أننا نباعد أيام موتنا بحرصنا فلكل أجل كتاب لا يعلمه إلا الله، لكننا ولا شك مأجورون على الحفاظ على هذه الأمانة التي وكلنا بها.
أما المقاييس التي يعتمدها الطب في قياس العمر الحيوي - البيولوجي فهي تعتمد على ضغط الدم ونسبة السكر والدهون في الدم وقدرات القلب واللياقة البدنية ونسبة الدهون في كتلة الجسم وغيرها من الفحوصات المختلفة.
ومن الأكيد أن الرياضة بأنواعها المختلفة التي حث عليها ديننا الحنيف لهي من أكثر ما يقوي الجسد ويقلل من سرعة التأكسد في خلاياه مما يعني إبعاد الشيخوخة عنه فضلاً عما تتخلص النفس بالرياضة من الضغوطات والتوترات التي تخف وطأتها بعون الله وبالتالي يخف تأثيرها على جسم صاحبها.
وكم أنظر باحترام للمحافظين على رياضة المشي الراقية والمفيدة للمرء جسداً وعقلاً وأدعو الجميع للمحافظة عليها.
أما مشكلة السمنة وما تجره على الجسد من ويلات فالحديث عنها يطول وليس المقام مقامه لكننا جميعاً نستطيع بعون الله أن نقاومها إذا أردنا. فللسمنة أبعاد وتأثيرات صحية ونفسية ودينية وأخلاقية واجتماعية يجب أن تراعى ولا تهمل أبداً.
أما الإيمان بالله وما يتركه من أثر في قوة الجسد ففي ذلك العجب العجاب، فالذكر والعبادات تقوي الجسد، وترك الذنوب والتقوى يحفظ الحواس بإذن الله إلى آخر العمر، والإيمان بقدر الله يورث السكينة والطمأنينة فيرتاح القلب ويصح البدن، وهل كمثل الهم عدواً للصحة؟ أما التوكل وتسليم الأمور كلها لله فهو خير ما يخدم به المرء نفسه طلباً لسعادة الدنيا والآخرة.
وأخيراً أقول لا تشق جسدك بشقاء روحك بالبعد عن الله، ولا تشق روحك بآلام وأوجاع جسد تجره بسيء العادات إلى الأمراض والأسباب، فاتخذ وتوكل على الله وحده.
نظرة تأمل:
ما أروع أن نتعلم الدرس قبل أن نمر بالامتحان، ولكن ما يحصل لنا جميعاً في هذه الدنيا أننا نمر بالامتحان أولاً لنتعلم دروسها، إلا تلاميذ مدرسة الحياة الأفذاذ الذين يتعلمون من دروس غيرهم لينجحوا في امتحانهم الخاص.
halasuliman@gmail.com