منذ انهيار نظام بريتن وودز في عام 1971م انفصل الدولار عن الذهب انفصالا تاما وأصبح معوما. وتبع ذلك تزايد طبع الدولار، وإحداث تغيرات جوهرية في الاقتصاد العالمي. إن هذه التغيرات أحدثت تأثيرات متعددة منها ما هو واضح وجلي، ومنها ما قد يكون خفيا ويحتاج إلى إمعان النظر في تدبره.. وإليك أخي القارئ بعضا مما قد يكون من خفايا الاقتصاد العالمي:
1- الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي:
الفكرة التقليدية حول M1، M2، M3 كممثل للسيولة الأساسية Core Liquidity لا تعتبر فكرة صحيحة في هذا الوقت بسبب ثورة المخترعات المالية التي نجم عنها أشكال أخرى متنوعة للسيولة مثل المشتقات المالية. ووفقا لدراسة حديثة فإن القاعدة النقدية تشكل فقط 1% من السيولة العالمية بينما النقود بمعناها الواسع تشكل 9%، والقروض المسنّدة تشكل 10%، أما المشتقات المالية فتشكل 80% من السيولة العالمية. إن التوسع في الإقراض يمثل بذور الأزمات المالية حيث تسبب بانقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني. فالتوسع المالي بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المتنوعة بشكل مستقل عن الاقتصاد العيني جعل للأسواق المالية حياتها الخاصة بها بعيداً عما يحدث في الاقتصاد الحقيقي. يقدر سوق السيولة العالمي بـ 607 ترليون دولار، بينما يقدر الإنتاج الإجمالي العالمي المحلي بـ 48.56 ترليون دولار. أي أن حجم السيولة العالمي يساوي 12.5 مضروبا بالإنتاج الإجمالي العالمي المحلي. وبناء على هذه المعطيات فإن البنوك المركزية تمتلك قليلا من التحكم في سوق السيولة العالمي، وهذا يعني وصول العالم إلى مرحلة أن السوق المالية تؤثر أو ربما تقود ماذا يحدث للاقتصاد العالمي بدلا من العكس، حيث من المفترض ان يقود الاقتصاد الحقيقي الاقتصاد المالي باعتباره خادما للاقتصاد الحقيقي المنتج.
2- الدين العام الأمريكي:
في عام2006م بلغ الدين العام الأمريكي 5 تريليونات دولار منها 2.2 تريليون دولار يمول من قبل الأجانب. والدين العام الأمريكي في تزايد مستمر، إذ تشير الأرقام المتاحة إلى أن الدين العام الأمريكي الكلي بلغ حوالي 53 تريليون دولار في العام 2007 (يوازي 470% من الدخل القومي)، ولا شك أنه ازداد في عام 2008م. أما الدين العام الفيدرالي الحكومي فقد بلغ نهاية عام 2007 حوالي 9.2 تريليون دولار، ويبدو أنه سيتجاوز 11.5 تريليون دولار مع تمويل خطة الإنقاذ المالية لبوش، وتنفيذ خطة اوباما لترميم وإنعاش الاقتصاد الأمريكي في هذا العام 2009م التي تبلغ حوالي 800 مليار دولار. ولكن من يمول هذا العجز الحكومي المتراكم؟ ان المستثمرين الأجانب يمتلكون 46% من سندات الخزانة الحكومية الأمريكية. وتمثل الصين اكبر مشتر لسندات الخزانة الأمريكية، وتأتي اليابان في المرتبة الثانية. ولنا ان نتساءل: ماذا يحدث لو توقفت الصين واليابان عن شراء هذه السندات؟ ماذا لو أرادت الصين واليابان تسييل سندات الخزينة الني بحوزتها؟ ما تأثير ذلك على قيمة الدولار، بل وعلى الاقتصاد الأمريكي بشكل عام؟
ولا شك مع وجود هذه الأزمة العالمية الخانقة التي تعصف بمقدرات الاقتصاد الأمريكي ستزيد من الدين العام، فهل تحمل هذه الأزمة في طياتها بذور نهاية عصر القيادة الأمريكية للعالم؟
3- طباعة الدولار واستهلاك الخيرات:
منذ قرار نيكسون بإخراج الدولار من الارتباط بالذهب ووضعه معوما عام 1971، والأوراق النقدية الأمريكية تتراكم بكميات مذهلة، مشكّلة بذلك المصدر الحقيقي للتضخم العالمي على مدار السنوات الثلاثين الماضية. وبالمقارنة، فإن حجم ما تم طبعه من 1950-1970، سجل ارتفاعاً بنسبة 55%، وهي نسبة معتدلة، في حين نجد أن هذه النسبة تضاعفت إلى أكثر من 2000% من عام 1971 إلى العام 2000. ونظرا إلى أن الدولار عملة عالمية منفردة تستخدم في إنجاز الكثير من المعاملات الدولية كشراء من ورقة النقود الأمريكية خلال الفترة البترول وغيره من السلع العالمية، نجد ان الكثير من الدول تسعى للاحتفاظ به لديها سواء بشكل سائل أو بشكل سندات خزينة حكومية. وهنا تبرز خطورة الاعتماد العالمي وبشكل مفرط على عملة رئيسة واحدة كعملة احتياط، مما أدى إلى خلل خطير في منظومة النمو الاقتصادي العالمي حيث يقوم البنك الفيدرالي الأمريكي بطبع النقود بلا توقف ويستهلك الخيرات، بينما تقوم الدول الأخرى بإنتاج السلع الرخيصة مقابل الحصول على الدولار الذي تطبعه الولايات المتحدة الأمريكية. ولا شك ان هذا أدى إلى عدم تناسب توزيع الرخاء والرفاهة الناشئ سواء بين شرائح السكان في دول معينة أو بين مختلف بلدان العالم ومناطقه. والحل هو اعتماد مجموعة من العملات مع الدولار.
4- السبب الرئيس في ارتفاع أسعار السلع الغذائية:
دراسة سرية بواسطة البنك الدولي، لم تكشف للعالم بضغوط من حكومة بوش، أثبتت ان السبب الرئيس (اكثر من 75%) في ارتفاع أسعار المواد الغذائية يعزى لاستخدام المحاصيل في صناعة الوقود الحيوي bio- fuels بواسطة أمريكا وأوربا. وهذا يعني التحكم الأمريكي بأسعار السلع الغذائية بما يتمشى مع ما يعرف بأجندة كيسنجر Henry Kiss inger في السبعينيات من القرن الماضي حيث يقول (اذا تحكمت بالغذاء تحكمت بالناس).
هذا غيض من فيض ويكفي التساؤل عما يحدث لقيمة الدولار ومن ثم للاقتصاد الأمريكي لو سيّلت الصين واليابان ودول مجلس التعاون الخليجي سندات الخزينة الأمريكية وحولتها إلى دولارات خارج الاقتصاد الأمريكي، وتبع ذلك السماح بتسعير البترول بعملات أخرى؟ إن آثاره لن تقتصر على أمريكا بل ستشمل جميع الدول التي تمتلك كميات من الدولار أو من سندات الخزينة الأمريكية ويزداد التأثر السلبي مع تزايد الكميات.
كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية - جامعة الإمام
saud2@w.cn