استلم المحافظ الجديد لمؤسسة النقد مهامه الأسبوع المنصرم وهو ليس بغريبٍ على هذا الجهاز الكبير والحساس، فقد شغل منصب النائب لسنوات طويلة وبالتالي متشرب بكل المسؤوليات الملقاة على عاتق المؤسسة، فقد كان أحد أهم صناع القرار فيها، ولكن المرحلة الحالية تختلف كثيراً عن سابقاتها، فبقدر ما بنت المؤسسة من احتياطات ضخمة وركزت على حماية أموال المملكة من تداعيات الأزمة العالمية وحصنت النظام المصرفي بالكامل ضد الأخطار بشكل عام والتي جاءت بنتائج خيرة عليه بحيث تفادى الوقوع ببراثن العاصفة المالية العالمية إلا أن هذا أيضاً يشكل نقطة الانطلاقة للمستقبل، فهذه مرحلة انتهت لتبدأ أخرى جديدة، فالعالم اليوم ليس كالأمس وأمام المحافظ وجهاز المؤسسة تحديات رئيسة ثلاثة:
التحدي الداخلي:
مع تطور اقتصاد المملكة واختلاف احتياجاتها عن السابق وزيادة عدد السكان والتطور التعليمي وغيرها تبرز المسالة الأهم اليوم، وهي: كيفية إعادة الثقة للسوق الائتماني خصوصاً للمشاريع الكبرى التي باتت تواجه مصاعب بسبب أحجام البنوك العالمية عن الإقراض وانسحاب شركاء أجانب منها بضغط الأزمة العالمية عليهم وإن كانت المؤسسة قد بدأت خطواتها فعلياً منذ وقت سابق من خلال تخفيض أسعار الفائدة إلى مستويات قرابة 1% إلى تخفيض الاحتياطي الإلزامي للبنوك من 13 إلى 7 بالمئة مع زيادة حجم الودائع بالبنوك غير أن السوق لم تستجب كثيراً فما زال هناك تحفظ بالإقراض بشكل عام وهناك أصوات بدأت ترتفع من المؤسسات والشركات حول تشدد البنوك بشروط منح القروض والتمويل للمشاريع فلا بد من معرفة الأسباب الكامنة وراء هذا التخوف ومعالجته سواء مع البنوك أو مع جهات أخرى تضمن نشاطات الشركات والمؤسسات وعليه البنوك لابد أن تحرص على خطواتها بمرحلة يضرب التراجع الاقتصادي بل وملامح الكساد العالمي فقد تكون الجدوى الاقتصادية لطلبات الشركات وما تقدمه من ضمانات غير كافٍ لتحصين الأموال المقدمة من الضياع مما يعني أن يكون لدى المؤسسة ورشة عمل تنسق مع كل الأطراف لإيجاد الآلية الضامنة لتسهيل حركة السيولة وتبديد المخاوف الجاثمة على صدر الاقتصاد المحلي كما يظهر على الخط الآخر مراقبة التضخم فلا يعني تراجعه عدم عودته بالمستقبل فيجب التصدي لذلك من خلال دفن بواطن الخلل السابقة التي فجرت معدلاته بشكل سريع مما يعني تنظيم تدفق السيولة نحو المشاريع التي تقلل من أثر أي تضخم مستقبلي وبالحديث عن تنظيم تدفق النقد فلابد من التركيز على توجيهه بشكل يعود بالنفع على الاقتصاد ففي السابق كان هناك عشوائية ظهرت اثارها بسوق المال حيث تضخم بشكل كبير جداً وتبددت أموال كثيرة به دون فائدة من خلال التسهيلات المقدمة من البنوك والقروض الاستهلاكية التي تحولت للسوق أيضاً مع المدخرات التي كانت بحوزة الناس وتبخر جلها ولا يحتاج السوق إلا إلى أكثر من نظرة على قيمته السابقة والحالية لمعرفة ماذا حدث وهذا يتطلب النظر من جديد بنوعية الإقراض حيث يجب توجيهه لما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي بالدرجة الأولى وتمكين المواطنين من تملك الأصول كالمساكن التي يجب أن تأخذ قسماً كبيراً من حجم التوجيه النقدي بالمستقبل ونعلم بأن هناك مؤسسات تمويل أسست والبنوك تنتظر نظام الرهن العقاري ولكن يجب مراقبة تحرك السيولة المقدمة بشكل لا يخلق عندنا أزمة رهن كالتي حصلت بالعالم حالياً, كما تبرز الحاجة إلى تطوير عمليات التمويل وهذه أعلن عنها المحافظ عبر تنشيط سوق السندات وهي خطوة مهمة للشركات وللمستثمرين عموماً وتبديد للمخاطر التي حدثت سابقاً لكل الأطراف سواء الشركات عبر قروض ورفع رؤوس أموال دون تحقيق عائد من ذلك بشكل عام أو الاستثمارات الفردية التي كان يرجو أصحابها دخلاً إضافياً فاحترقت بهبوط سوق الأسهم العالي المخاطرة بسبب هشاشته وكذلك أثار هبوط الاقتصاد العالمي بشكل عام, ثم يأتي تنظيم سوق التقسيط، فالشركات العاملة فيه لا تخضع لمؤسسة النقد وهي بالنهاية تضخ سيولة بالسوق ولا أحد يعرف ما يعتريها من كوارث أو حتى طريقة حركة سيولتها فلابد من وقوعها تحت إدارة مؤسسة النقد لتضبط إيقاع النقد من كل الأطراف الفاعلة فيه. ثم يأتي الدور على قطاع التأمين، فهذا يحتاج إلى إعادة نظر بقوانين تأسيس الشركات ورؤوس أموالها فقد شاهدنا كيف أصبحت محرقة للأموال بسوق المال من خلال مضاربات شرسة ولكن الأهم نشاطها بالسوق فبعضها أصبح خاسراً لنصف رأس ماله وطلب زيادة برأس المال بعد فترة قصيرة جداً من تأسيسها هذا غير تجاوز أخريات للأنظمة كما قرأنا وإصدارها لبطاقات تأمين لمجرد استخراج وثيقة الإقامة لغير السعوديين دون أي التزام للعميل المؤمن من خلال تخفيض قيمة التأمين، هذا غير النقطة الأهم وهي تذرع العديد من الشركات بعدم حصولهم على رخصة مزاولة المهنة على الرغم من إدراجها بسوق المال دون صدور تبرير من مؤسسة النقد حول آلية الطرح التي سبقت الترخيص للعمل بالسوق.
التحدي الإقليمي:
فكوننا عضواً بمجلس التعاون الخليجي وتسعى دوله لتحقيق الوحدة النقدية في العام القادم فإن هناك تحدياً آخر بالقدرة على تحقيق ذلك وإن كان الأمر لا يرتبط بالمؤسسة وحدها، فبقية الدول تشارك بالقدرة على تحقيق هذه الرؤية ولكن تبقى آلية التنسيق ووضوح المعايير المحققة لهذا المشروع ومدى المشاركة بوضع الضوابط التي تلتزم بها كل الدول مسألة في غاية الدقة والحساسية، فهناك اشتراك عام بمصادر الدخل بين كل دول الخليج من خلال الاعتماد على النفط إلا أن هناك تبايناً بحجم الاقتصاديات وطريقة التوجهات فيه، فالتحفظ الذي سارت عليه المؤسسة أفاد كثيراً اقتصاد المملكة بينما انفتاح بقية الدول أوجد سلبيات عليها بنسب متفاوتة ومع الإيمان بأن لكل بلد واقعه ورؤيته إلا أن هناك خطوطاً عريضة يجب أن يشتركوا بها وتكون إستراتيجية ثابتة وإذا لم يتم الانسجام فبالتأكيد سيكون هناك صعوبات تضغط على الجميع وعلى المؤسسة فهي تنظر للاقتصاد المحلي بعين الاحتياجات وإلى المنظومة الخليجية بعين التوافقات فلابد من إزالة التناقض بينهما وهذا باشتراك الجميع وليس بعمل فردي.
التحدي الدولي:
وهنا يكمن بيت القصيد فالريال مرتبط بالدولار الأمريكي، وقد تحققت فوائد كبيرة بالسابق من خلال هذا الربط ولكن مع تردي وضع أمريكا الاقتصادي وعدم الوضوح لمستقبل الدولار على المدى المتوسط والبعيد لأن المدى الحالي لا أحد يفكر فيه كون العالم كله يحاول التصدي للأزمة فلا توجد بدائل أو أي تفكير بها حالياً حول مستقبل العملة الخضراء وتكمن الحاجة إلى وضع رؤية إستراتيجية تكون محددة بزمن معين لإزالة هاجس ربط العملة المحلية بأي عملة عالمية أو خلاف ذلك من توجهات وخيارات مفتوحة تحقق الاستقرار الدائم للعملة وتحميها حتى مع التوجه لعملة خليجية موحدة لابد من طرح هذا الأمر لأنه يعطي حرية مطلقة بقرارات السياسة النقدية خصوصاً بموضوع معدلات الفائدة والحاجة إلى توجيهها حسب احتياجات الاقتصاد فرأينا كيف كانت معدلات التضخم ترتفع سابقاً ويتم تخفيض سعر الفائدة مسايرة لتوجهات الفيدرالي الأمريكي بسبب الربط بالدولار حتى تتم الحماية للريال من المضاربات كما يجب النظر بجدية إلى واقع الاستثمار بسندات الخزينة الأمريكية فقبل أيام أبدى رئيس الصين قلقه من وضعها بسبب اقتصاد أمريكا الضعيف وحجم المديونية الهائل على الحكومة مما يستدعي التفكير بالمستقبل حول بقاء مثل هذا الخيار قائماً فقد تفقد أمريكا قدرتها على سداد ديونها كون الأزمة لم تكشف كل سلبياتها واثارها في الأنشطة الاقتصادية ومستقبلها.
على الرغم من أن التفاصيل كثيرة بمختلف الأصعدة ولا يمكن حصرها بأسطر قليلة ولكن يأتي المحافظ الجديد اليوم ليقود المؤسسة بوجه كل هذه التحديات وبالتأكيد لديه ذخيرة هائلة سواء بجهاز المؤسسة الكبير المليء بالخبرات والتي أثبتت نجاحها بأمور عديدة واحتياطات مالية ضخمة وموقع اقتصادي للمملكة متقدم فنحن من دول العشرين التي تسعى لإنقاذ اقتصاد العالم بخلاف ما نمتلكه من ثروة نفطية هائلة ولله الحمد يدعم كل ذلك توجيهات قيادة المملكة الحكيمة نحو الدفع باقتصاد المملكة إلى مصافي الدول المتقدمة والخروج من هذه الأزمة بمكاسب عظيمة وبقدر ما نبارك لمعالي الدكتور محمد الجاسر على توليه قيادة مؤسسة النقد فإننا نتطلع لرؤية جديدة لهذه التحديات التي فرضتها عوامل التغير بكل أبعادها المحلية والإقليمية والدولية.