وردت كلمة الثقافة في القرآن الكريم: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي حيث وجدتموهم.. وفي الحديث الشريف: (هو غلام شاب لقن ثقف) أي ذو فطنة وذكاء.. وفي القواميس العربية الأولى وردت كلمة (ثقَّف) بمعنى أصلح وقوّم وهذّب، فقيل: (ثَقَّف السيف) أي أزال ما به من اعوجاج وثلوم وصدأ حتى يصبح السيف لامعاً وحاداً وصقيلاً.. وكان الملوك وما يزالون يعهدون إلى العلماء والمربين بمهمة تثقيف أبنائهم وتعليمهم شتى العلوم لتهيئتهم للقيادة والحكم.. ثم جاء اللغويون وعرفوا الثقافة بأنها الأخذ من كل فن بطرف.. أما في العصر الحديث فقد عرف المفكر العربي الكبير (مالك بن نبي) الثقافة بأنها: جو يمتص أفراد المجتمع عناصره تلقائياً، من ألوان وأحداث وحركات وروائح وأفكار يتلقونها لا بوصفها معاني ومفاهيم مجردة.. ولكن بوصفها صوراً مألوفة يستأنسونها منذ المهد.
المفكر السعودي إبراهيم البليهي يعرف الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي على أنها أسلوب الحياة التي يعيشها أي مجتمع من تقاليد وعادات وأعراف وتاريخ وعقائد وقيم واهتمامات واتجاهات عقلية وعاطفية ومواقف من الماضي والحاضر ورؤى للمستقبل.. أي أنها طريقة تفكير وأنماط سلوك اجتماعية وسياسية.. يكتسبها الناس من البيئة منذ ولادتهم.. ثم يزيد الأستاذ البليهي: إن الإنسان كائن ثقافي فهو صانع للثقافة وفي الوقت ذاته هو مصنوع بها، والثقافة هي العقل ذاته، ومن هناك تنوعت العقول بتنوع الثقافات فيقال عقل عربي وعقل أمريكي وعقل لاتيني وهكذا.
أما الدكتور عزيز العظمة فهو يرى أن هناك الكثير من المقولات والمفاهيم الكبرى كالحرية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية والمجتمع المدني والعقل والتاريخ والثقافة والأصالة والتراث والإسلام وغيرها.. تُعامَل بكثافة لفظية وبخفة مفهومية في آن واحد، وتتسم بدخولها في مجالات خطابية هلامية، غير منضبطة، مفتقرة إلى الدقة والجد والتدبر والفهم، جانحة إلى الاستخدام السجالي.
الاتفاق العام أن هناك ثقافتين أو لنقل ثقافة في مجالين هما المادي والاجتماعي.. الثقافة المادية تغطي وسائل العمل والإنتاج ومن ثم ثمرته وهي المنجز.. أما الثقافة الاجتماعية فهي تغطي العقائد والعادات والتقاليد والأعراف والأفكار ومستوى التعليم.. وكل ذلك ثمرته السلوك الفردي.
ولتعديل أو تغيير الثقافة بمجاليها المادي والاجتماعي تساءَل علماء الاجتماع: كيف نعمل وماذا نعمل ومن أين نبدأ؟ وكان الاتفاق العام بينهم أن البداية يجب أن تكون بتغيير الثقافة المادية.. أي البدء بتعديل وتغيير وسائل العمل والإنتاج القائمة.. على طريق الوصول إلى تغيير الثقافة المجتمعية التي تنتج السلوك.. والسبب لذلك الاختيار هو أنها أسهل قبولاً للتغيير وأكثر مرونة.. فتغيير الواقع أسهل وأسرع من تغيير الأفكار والمفاهيم والعادات والتقاليد بعناصرها واتجاهاتها ومستوياتها.
وإذا كانت البيئة هي المتحكم الأول في الإنسان الأول.. فإن الثقافة هي المتحكم الأول في الإنسان المعاصر.. وما تنوع المجتمعات المعاصرة واختلاف مستوياتها المعيشية والحضارية إلا نتيجة تَشَكَّلت بتأثير الثقافة.. فالمجتمعات التي عجزت عن الإفلات من قبضة التخلف.. دليل على أن معوقات التقدم في ثقافتها أكثر من المحفزات.
الثقافة تسبق الحضارة.. فلا يتم بناء الحضارات من الفراغ ودون الاتكاء على ثقافات قائمة يمكنها أن تبني.. كما أن الثقافة تسبق الفرد.. فالفرد يولد في بيئة ثقافية قائمة سواء على مستوى إنسان الغاب أو على مستوى إنسان المدنية الحديثة.. وهو لا بد سوف يتشكل ويتأثر بهوية تلك الثقافة التي تربى فيها.. وليس ذلك بإرادته بل إنه ينساق مع تيار ثقافة المجتمع المحيط كما ينساق القارب مع تيار الماء الجارف.. فالثقافة هي نتاج الاجتماع الإنساني لذا فالإنسان
يكتسبها ويتطبع بها دون اختياره.