لا يمكن تجاوز مرحلة الصراع الحضاري الحالي بين الليبرالية والإسلام مهما حاول البعض التخفيف من حدة الصراع.. هو واقع لا يمكن إغفاله في هذه المرحلة من التاريخ الحديث، والليبرالية تواجه في الوقت الحاضر خصماً غير كل الخصوم، فالإسلام ليس مثل الشيوعية أو النازية أو غيرهما من النظريات القومية والتي عادة ما تختفي أمام المد القوي لليبرالية المتطورة..
لن تنجح محاولات لوي أعناق الأصول والمبادئ الإسلامية لكي تقترب من الليبرالية، وهي اجتهادات دائماً ما تفشل لأنها تخالف أبسط بديهيات العقل الإنساني، فالمفاهيم الليبرالية الحالية سبق للإسلام أن واجهها في مراحل سابقة من التاريخ العربي وبالتحديد في مرحلة ما قبل الإسلام.. لكن المتغير في هذا الشأن هو تطور نهج الفكر الليبرالي وتعدد أساليبه ونفوذه الاقتصادي العالمي..
ترتكز الليبرالية الغربية على ثلاثة أركان وهي تحرير الاقتصاد والتعددية والحرية الاجتماعية، مع أخذ بعين الاعتبار تداخل هذه الأركان مع بعضها البعض، وذلك كمنظومة متكاملة من أجل مزيد من المساحة لنفوذ المال والاقتصاد في المجتمع..
تميزت مرحلة ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية أيضاً باختلاف مصادر القوة والسيطرة، ففي الصحراء على سبيل المثال كانت الغلبة لقوة الجيش والقدرة على الغزو والنهب والسلب، بينما في قريش كان الأمر يختلف، فالقوى الاقتصادية التي كان يتزعمها زعماء مكة الأثرياء أدت إلى سيطرة القوة الاقتصادية ممثلة في مجلس دار الندوة على القرار السياسي، وعلى طرق وقوافل التجارة من وإلى اليمن والشام.
شكلت مواسم الحج والتجارة والربا أهم ركائز العائد المادي في قريش، وكانت مكة قبلة التجارة ومركزها القوي في جزيرة العرب، كما كانت أيضاً حرية الاقتصاد وسيطرة الأقلية الغنية من أسباب تطور المعاملات التجارية وخروج الاتفاقيات السياسية مثل حلف الفضول والأشهر الحرم! وذلك من أجل استقرار سياسي يسمح باستمرار قوافل التجارة إلى البلاد البعيدة، كذلك كانت سيطرة مكة على طرق التجارة سبباً لشن الحروب على قريش، مثل حرب عام الفيل..
قادت السيطرة الاقتصادية المجتمع القرشي إلى مزيد من الاستقرار السياسي المؤقت، الذي صب حتماً في مصلحة أصحاب النفوذ.. لكن في جانب آخر في مجتمع مكة ازداد الفقر وظهرت الطبقية وظلم واستغلال العبيد كنتيجة لسيطرة الأقلية المطلقة على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. كذلك كان يحفل مجتمع مكة بالتعددية الدينية، وكانت الحرية الدينية وحرية اختيار المعتقد من أساسيات مجتمع مكة قبل الإسلام، وإن كان المقدس صنماً مصنوعاً من حجر..
ليأتي الإسلام بتعاليمه السماوية وبشرائعه المنزلة ليقف ضد كل الأعمال الخارجة عن شرع الله, فهُدِمَت الأصنام، وحُرر العبيد، وقضي على الشرك وضُيق على الفقر، وفُرضت حقوق للسائل والمحروم من عوائد المال، ورُسمت حدود للحرية المطلقة للاقتصاد مثل ركن الزكاة وسنن الصدقات. لتذهب قوافل قريش التجارية بدون رجعة، وتختفي طرق رحلات الصيف والشتاء، وتتوقف التجارة، ويُمنع الربا، وتتلاشى التعددية، ليظل الدين خالصاً لوجه الله عز وجل..
يرى بعض المؤرخين الغربيين أن انطلاق الرأسمالية، وما أعقبه من التطور العالمي المالي جاء من نافذة القروض الربوية، وبالتحديد من مدينة البندقية التي كتب فيها وليام شكسبير مسرحيته الشهيرة عن تاجر البندقية والمرابي اليهودي شايلوك، وتقوم هذه المسرحية حول تاجر شاب من إيطاليا يدعى أنطونيو يحتاج إلى المال من أجل صديقه بسانيو الذي يحبه كثيراً، لأن بسانيو يريد أن يتزوج من بورشيا بنت دوق (بالمونت)، فيضطر للاقتراض من التاجر المرابي شايلوك الذي يشترط عليه أخذ رطل من لحمه إذا تأخر عن سداد الدين.
في المعاملات التجارية والبيع والشراء يجيز اليهود التعامل في هذه الأحوال مع غير اليهود لكن من منطلق يحقق المصلحة والفائدة لليهود بالدرجة الأولى، فبينما حرمت اليهودية بمصدريها -العهد القديم والتلمود- التعامل بالربا مع اليهود، لكن إجازته مع غير اليهود، ومن خلال هذه النافذة الصغيرة نشأت تجارة القروض لأصحاب المشروعات التجارية وللمحتاجين الذين يبحثون عن الذي يقرض المال بفائدة مثل اليهودي شايلوك، وعبر هذه المعاملات تأسس أول بنك للإقراض الربوي في إيطاليا، ومنه بدأ عصر الرأسمالية وحرية التجارة في الغرب بعد أن تم إجهاضه مبكراً في جزيرة العرب مع بزوغ الإسلام.