مهما كانت قسوة النقد الذي يمكن أن تتعرّض له، فإنّ للناقد مبرّرات يمكن تفهمها، أياً كان نوع هذا النقد: موضوعياً، انطباعياً، شخصياً، تهكمياً .. الخ، ولكن هناك نقداً واحداً لا يمكن قبوله وناقد يصعب احترامه .. إنه الناقد الكسول الذي يطرح نقداً لا معلومة فيه عن المنقود سوى عموميات متوقّعة غير مؤكّدة،من فضائيات أو صحف أو كلام فلان..
يقول مثلنا الشعبي: (العجّاز يعلم الغيب)، العجاز أي الكسول .. فقبل أن يقوم بأية مهمة تجده يضع توقعات مُعرقلة تدعوه لأن يؤجل عمله إلى ما لا نهاية مطالباً بتوفير مستلزمات ليقوم بعمله .. كذلك الناقد الكسول، ينتقد جهة ما أو فرداً ما دون أن يطلع على أعمال هذه الجهة أو ذاك الفرد، بل يتوقع أو يسمع أو تصل إليه من وسائل الإعلام كما تصل للآخرين غير المتخصصين..
في أحد الاجتماعات التي تأثرت بها كثيراً، وخرجت منها وأنا متألم وأشعر بحزن شديد وشبه صدمة، عندما دعانا مدير مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني فيصل المعمر، جامعاً نحو عشرين كاتباً انتقدوا أداء المركز. وقال لنا في البداية بكل ودّ ولطف: إنني أؤمن بالنقد .. بل ولأننا في مركز حوار فأقول لكم وبكل شفافية انتقدونا حد السلخ! ولا يوجد لدي أي تحفظ على نقدكم سوى طلب واحد بسيط، أرجوكم قبل أن تنتقدونا تأكدوا ماذا عملنا، ثم قولوا ما تشاؤون..
بعد ذلك عرض علينا نشاطات المركز .. وهنا، أصبت بالصدمة، حين عبّر العدد الأكبر منا، بأنهم لم يكونوا يعلمون عن كثير من تلك الأعمال والنشاطات الكبيرة التي يقوم بها المركز .. وكان بعضهم طالب في مقالته أن يقوم المركز بنشاطات، تبيّن له أنّ المركز فعلاً يقوم بها، دون أن يعلم هذا الناقد بها .. الصدمة هنا، أنه كيف أجاز البعض لنفسه أن ينتقد المركز دون أن يطلع على أعماله؟ رغم أنّ موقع المركز بالإنترنت يفتح بسهولة، وفي غضون دقائق يمكن الاطلاع على أهم أعمال ونشاطات المركز..
من المهم فعلاً، أن نعرف الإجابة على هذا السؤال .. كيف يجيز ناقد ما لنفسه أن ينتقد جهة ما دون وجود الحد الأدنى من المعلومات التي تؤهله للحكم والتقييم والتقدير والموازنة؟ هناك كاتبان من المشاركين أجابا بشكل مباشر على هذا السؤال..
أحدهما اعترف أنه لا يعرف عن المركز إلاّ تلك المؤتمرات التي يقيمها، ولكنه ذكر أنه ليس في حاجة أن يعرف ما يقوم به المركز .. فيكفيه أن يرى إنجازات المركز على واقع الشارع والمجتمع السعودي .. ثم عبَّر عن إحباطه من أداء المركز، لأنه يرى أن التشدد لا يزال موجوداً، وضرب أمثلة ببعض خطب الجمع في المساجد، وبعض الخطابات الدينية المتشددة.. والناقد الآخر طرح منطقاً مشابهاً لهذا الطرح، وإن كان أسوأ حيث قال إنه حتى المؤتمرات لا يتابعها!!
ولا أدري أهمها أكثر غرابة، الناقد الذي يفتخر بعدم حاجته للمعلومات ومعرفة ما تقوم به الجهة التي ينتقدها، أم طريقة الربط بين عمل تلك الجهة وتأثيرها على الشارع والمجتمع السعودي، وهو يعلم أن العلاقة لا يمكن أن تكون مباشرة، وبالتالي لا يمكن أن تكون معياراً تقييمياً ولا مقياساً للحكم، خاصة أن المركز جهة حوارية ثقافية، وليست جهة تنفيذية ولا تشريعية ولا قضائية ولا تربوية، كالداخلية والقضاء والتعليم .. وأود أن أشير إلى أني لست في مقام الدفاع عن المركز، فأظن أنني من أكثر من انتقده حتى أني أصبت بالملل لكثرة ما انتقدته، وخشيت أن أكون مصدر إزعاج للمسؤولين فيه..
اقرأ لأهم النُقاد في الصحف في قضايا الخدمات، ستجد أن أغلبها تعتمد على معلومات مأخوذة من الصحف أو الفضائيات .. وفيها معلومات مضللة .. وهذه المعلومات متوفرة للجميع، وهي في الغالب ليس مرجعية مؤكدة لناقد يريد أن يقيِّم عمل جهة ما، فأين عمل الكاتب الناقد إذا كان يريد أن تصل إليه المعلومة مثلما تصل للقارئ. كما أن هذه المعلومات وفي كثير من الحالات تكون غير كافية للحكم وتقييم أداء الجهة المنقودة..
والأدهى عندما لا يشعر الناقد بالخجل من كسله، حين يكون مرجعه (قال لي فلان)، كما يقول المثل الشعبي: (إذا كذبت فسند) أي اجعل لك فلاناً سنداً .. والأكثر مصيبة عندما يفتخر الناقد - دون أن يدري - بكسله، ويذكر بأنّ قارئاً أرسل له رسالة، ثم يستند على المعلومات التي في الرسالة وكأنها مرجعاً كافياً لنقده هذه الجهة أو تلك، خاصة إذا كانت هذه الجهة تمس هموم الناس اليومية كالصحة والتعليم والمياه والكهرباء والاتصالات .. حيث يأخذ الناقد راحته (ويبحبح) بالتهكم، فالناس سوف تغفر له زلاته المنهجية وضعف معلوماته مقابل التنفيس (فش الخلق) الذي يوفره لهم..
بين يدي الآن مقالة لناقد يومي مشهور يسخر بطريقة طريفة لطيفة على وزارة المياه لأنها لم تفعل شيئاً للمحافظة على المياه، وأنه لم يتم فعل أي شيء في ذلك .. وواقع الحال أنه فُعل الكثير، ولكن هو لم يتابع، ولم يجهد نفسه ليعرف، ولم يسأل، ولم يبحث .. والسبب في ذلك مثل سابقيه عن المركز .. يقول الناقد أنه ليس في حاجة إلى أن يعرف طالما أنه يشاهد تبذير المياه في الشوارع .. وأعيد ما ذكرته لست في مقام الدفاع عن وزارة المياه، فقد قمت بنقد لنشاطاتها في مجال المحافظة على المياه، لكن لم أتجرأ وأقول إنها لم تفعل أي شيء!!
وبين يدي الآن مقالة أخرى لناقد يومي أكثر شهرة وحصافة من الأول، ومع ذلك يطرح نقده الساخر الجميل بطريقة لا تخدم غير (فش الخلق) ضد وزارة الصحة، ويتساءل عن دور لجنة طبية، ويقول إنه لا يعرف عنها شيئاً .. ولو سألناه لماذا لا تعرف عنها شيئاً، ما هو دورك؟ هل بحثت ولم تجد فنعذرك، هل اتصلت بالجهة المختصة ورفضوا أن يعطوك معلومات فنعذرك، أم تكاسلت وانتظرت المعلومة تأتي إليك فوق الطاولة؟ يقول أنا لست بحاجة للمعرفة، فكل اللجان حبر على ورق!!
لماذا لا يبذل أغلب النقاد حدَّاً أدنى من الجهد، في البحث والتقصي والتأكد من صحة المعلومات ومن كفايتها؟ في تقديري أن هناك سببين رئيسيين من جملة أسباب .. الأول هو أن التنفيس المطلوب من المقالة يُضعف كثيراً من وضوح المعايير النقدية لدى القراء، فيعتاد الكاتب على الدعة ويركن للكسل، لأن الجمهور عموماً لا يحاسبه! السبب الثاني هو جهل كثير من النقاد بأصول النقد وتوفر أركانه، بل جهل بعضهم بأبسط أدوات التحليل، كما رأينا حين ينتقد الكاتب جهة ما ويعلن بوضوح عدم معرفته بما تفعل تلك الجهة، ولكنه يجزم أن ما يراه في الشارع أو المجتمع كافٍ ليؤكد تقييمه!
alhebib@yahoo.com