تُعد الريادة في مجملها العام من الأمور الصعبة التي إذا لم يواكبها تخطيط سليم ودعم كبير وإدارة واعية ومتفانية فقد تكون وبالاً على البلد أو الشركة أو المنشأة أين كانت، فهذا الكلام ينطبق على مثل ما سوف أنقله لك عزيزي القارئ، فكيان مثل شركة (أرامكو) العملاقة، تُعد من الشركات التي تتمثل فيها الريادة في أصدق صورها..
وبقدر ما تحقق الريادة من تألق، هي مسؤولية محفوفة بمخاطر كثيرة.. الريادة تجربة ينتقل فيها الجهد البشري من مرحلة التصوير النظري وتحديد الهدف إلى التنفيذ العملي بكل ما يواجه ذلك من مخاطر.. وفي حالة أرامكو أعتقد أن مخاطر الريادة مضاعفة، فهي ليست أول شركة لاستخراج البترول وتسويقه في العالم.. لو كانت كذلك لحظيت بفرصة القبول بأي شكل ظهرت فيه, بل هي وقفة تحدٍ أمام جدار انتصب أمام العمل في التنقيب عن خام البترول منذ أكثر من سبعين عاماً, ليحوّل اهتمام العالم بالمملكة العربية السعودية بوصفها من مصادر الطاقة في العالم أجمع.. وبالكشف عن أول بئر للنفط تكون الطرقة الأولى على ذاك الجدار.. فهل تحققت الريادة..!!?
أنا هنا لن أتناول ريادة أرامكو في مجال التنقيب عن النفط، أو في تكرير الزيت الخام، أو ريادتها في نشأة المدن، أو في تخطيطها، أو في المجال التعليمي، أو ريادتها في مجال الصحة في مملكتنا الغالية، أو ريادتها في مجال الإدارة الحديثة الشفافة والمتزنة والمحاسبة، كل ذلك جميل وموجود في أرامكو، ولكن أنا سوف أنظر وأتناول ريادتها في مجال قد لا يعني الكثير من المتابعين والمطلعين، ولا لوم عليهم في ذلك، ولكن اللوم كل اللوم على مثلي عندما يُدعى للكتابة عن نوع -أي نوع- من الريادة التي حققتها أرامكو، وللأسف، أقول للأسف مع ما لهذه الريادة من أسبقية وبروز، لم تستمر فيها أو تعيرها فيما بعد أي اهتمام, وإن كان هناك من اهتمام فليس ظاهراً لي على الأقل أو إلى المتابعين الذين يعشقون ريادة أرامكو.. قد أكون أطلت فيما أريد أن أذكره عن ريادة أرامكو التي أريد أن أتحدث عنها، كل ذلك لأجل أن أجمع تفكير القارئ الكريم وتركيزه لأجل أن أقول إن ريادة أرامكو التي أتحدث عنها هنا هي تلك (الريادة الأثرية)، وكلي أمل أخي الكريم أن تواصل القراءة لأقول وأُبيّن ما أقصد قبل أن تشيح ببصرك أو تنشد قلب الصفحة للاستمتاع بمقال آخر.
فماذا أقصد إذن ب(الريادة الأثرية)؟.. أقصد بها أن بعثات وفرق عمل التنقيب عن النفط في بداياتها كانت تضم عدداً من علماء النفط والجيولوجيا والنبات والطقس، وليس هؤلاء فقط، بل لم يغب عن رواد البحث عن مصائد النفط بعض من علماء الآثار الذين كان يستأنس بهم وبآرائهم في فريق العمل الميداني في ذلك الوقت.
ولما كنت ممن يعمل في قسم الآثار بكلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود وهالني الكم الهائل من الاكتشافات الأثرية التي قام بها بعض علماء الآثار المصاحبين لفرق المسح الجيولوجي ضمن فريق التنقيب عن البترول في فُرق أرامكو الكثيرة في منتصف القرن الماضي الميلادي من دون ذكرهم كلهم لأن القائمة طويلة، ونشرت أبحاثهم على هيئة تقارير في مجلات علمية أو صحف سيارة في وقتها، أو ما زال في مكتبة أرامكو في الظهران.
لهذا سوف أتناول هنا دون أن أستقصي أسماء أولئك العلماء الذين شاركوا في الكشف عن تلك الآثار التي تزخر بها أماكن كثيرة من المملكة، ودورهم في الكشف عن تلك الآثار ضمن فرق البحث لشركة أرامكو وما اكتشفوه وهم ما يأتي:
- السيدة مارني جولدنج: وقامت هذه الباحثة بدراسة الملتقطات السطحية التي عثرت عليها في مستوطنات قديمة تعود لما قبل الإسلام في شرق المملكة العربية السعودية.
- سيجير O.A.Seager وعبد الله فيلبي: وكان دورهما كبيراً في الكشف عن موقع (قرية) الفاو، في جنوبي وادي الدواسر في منطقة الرياض.. كما كان لهما أسبقية الكشف عن مجموعة من النقوش السبئية المكتوبة على الواجهات الصخرية بالقرب من موقع (قرية)، وفي غيره من المواقع الأخرى جنوب وادي الدواسر، إضافة إلى عثورهما على أدوات حجرية تعود إلى العصر الحجري الحديث، وملتقطات أثرية من مواقع متعددة من مناطق المملكة العربية السعودية تعود لأزمنة مختلفة.
- مكلير McClure: يعود له الفضل في كونه عمل على رسم خريطة للمواقع الأثرية في الجزيرة العربية ركّز فيها على بيان المواقع التي تعود إلى ما قبل التاريخ في المملكة.
- زيينر .E.Zeuner، وسمبسون G.Simpson، وسوردناس A.Sordinas، وأوفرستربت W.Overstreet: كل هؤلاء العلماء كانت أبحاثهم تدور حول العصور الحجرية القديمة في المملكة، وانصب عملهم على تصنيف الأدوات الحجرية وغيرها من المخلفات الأثرية التي عثروا عليها أثناء مسوحاتهم الجيولوجية.
ولقد حز في نفسي -بقدر احتفائي بما تمَّ إنجازه- غياب ذلك الدور الريادي لفرق البحث المتنوعة التخصصات والمكلفة بالبحث عن النفط، بعدم مصاحبة علماء الآثار السعوديين لفرق التنقيب المختلفة التي تقوم بها أرامكو، لهذا أطرح سؤالاً متعدد المطالب هو:
هل من كان يُشكِّل الفريق القديم في أرامكو على قناعة بما يقوم به من اختيار لأعضاء فريق البحث، وما سوف يجنيه من فائدة؟ أم أن علماء الآثار الذين كانوا ضمن الفريق القديم يختلفون عن علماء الآثار في جامعاتنا السعودية الآن؟ أم أن مشكل الفريق القديم أكثر وعياً من مشكل الفريق في الوقت الحاضر؟ أم ماذا؟
ولعلي أختم مقالتي هذه بطرح فكرة مفادها لماذا لا يكون هناك تعاون بين الشركة الرائدة في صناعة النفط (أرامكو)، وبين كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود، لخلق جو من التعاون العلمي بينهما، خصوصاً أن كلاً منهما رائد في مجاله، ونحن بالكلية على أتم الاستعداد بالمشاركة العلمية في فرق البحث والمسوحات الجيولوجية التي تقوم بها الشركة على مدار العام.
د. عبد الله بن محمد المنيف
كلية السياحة والآثار
جامعة الملك سعود
E mail_ myneef@yahoo.com