على كثرة ما أُلّف عن الملك عبدالعزيز إلا أني لم أجد من تحدث عن النقد في حياته كمفهوم أو ممارسة، قطعا لم أطلع على كل ما كُتب عنه، ولكني طالعت الأبرز والأهم، وحرصت على روايات المقربين منه، ولاسيما الذين تحدثوا عن اهتمامه بالشعر، وحفظه لأبيات منه، كما تحدثوا عن تمثله ببعضها، وخير الدين الزركلي كان واحدا من أولئك، وبحسبه فإن من جملة ما كان يُسمع على لسانه، ترديده لبيتي الأفوه الأودي:
|
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت |
وإن تولت فبالأشرار تَنقادُ |
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم |
ولا سراة إذا جهالهم سادوا |
ومن شعر ابن المقرب العيوني الأحسائي كان يردد أول بيتين من داليته الشهيرة: (تجافى عن العتبى فما الذنب واحد)، وإسقاط البيتين المذكورين ذو انعكاس على شخصية المؤسس، إذ يحكيان طرفا من بواكير كفاحه، وممن تحدثوا عن ذلك أيضا أمين الريحاني الذي كان واحدا ممن التقوا المؤسس وأطالوا الجلوس إليه، ومن ثم كتب عنه الكثير في (ملوك العرب) وغيره، وفي هذا الصدد يروي قصة بيتين من الشعر أمر المؤسس بنقشهما على بابه، وهما كما قرأهما الريحاني:
|
فإما حياة لا تُذم حميدة |
يُحدث عنها من أغار وأنجدا |
تُنال المنى فيها وإما منية |
تريح فؤادا خار من علة الصدا |
والذي يعرف تاريخ المؤسس جيدا يعلم أن معنى هذين البيتين هو ما كان يختلج في صدره مذ كان في الكويت وحتى استرداده للرياض في عام 1319هـ، وحين قرأ الريحاني على الملك قول المتوكل الليثي:
|
نبني كما كانت أوائلنا تبني |
ونفعل مثل ما فعلوا |
أبدى المؤسس تحفظه على هذا البيت، واستدرك قائلا: نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا، وهذا ملمح نقدي ذكي، من الرجل الذي كان يومها (سلطان نجد)، فهو من الناحية الفنية استبعد مفردة لا يريدها وجاء بكلمة على وزنها، فلم يكسر البيت ولم يختل وزنه، ومن الناحية الموضوعية أنف من بيت يكبل طموحه، وهو يتطلع إلى وحدة تجبر انقسامات أمته وتشرذمها، وهو ما كافحه بكل ما أوتي من قوة، ليترجمه بعد ذلك إلى واقع تُوج بضم الحجاز إلى رقعة بلاده، حتى غدا بعدها (سلطان نجد والحجاز وملحقاتها)، ومن ثم عاهل المملكة العربية السعودية.
|
بعد ضم الحجاز إلى رقعة الدولة السعودية عَرضت للمؤسس مشكلة ثقافية حول التحديث ورفضه، أحد أطرافها الشاعر محمد حسن عواد، وطرفها الآخر بعض المحافظين الرافضين للتحديث، وقد بلغ التصعيد ذروته حين بعث خصوم العواد برقية إلى المؤسس يطلبون فيها معاقبة العواد على أفكاره، واقترحوا سبل عقابه، وهي بحسب الغذامي كما في (حكاية الحداثة): إما قتله، أو سجنه سجنا أبديا، أو نفيه من البلاد!
|
تحريض أولئك لم يفلح في استعداء المؤسس على العواد، وبرقيتهم أحيلت إلى ابنه الأمير فيصل الذي كان حينذاك نائب الملك في الحجاز، وبمطالعته لتلك البرقية لاحظ أن مشكلة أولئك مع العواد فكرية محضة، فاقترح عليهم أن يردوا عليه الفكرة بفكرة، والرأي بالرأي، ولأنهم كانوا يريدون الإثخان لا الحوار لم يصغوا لدعوته، فأُوعز إلى يوسف ياسين - وزير الملك ومستشاره الخاص - ليرد على العواد ببضع مقالات نشرت في (صوت الحجاز) أو (أم القرى)، إلا أن أولئك لم يقتنعوا بهذا كله، فذهبوا يزايدون على القضية من جديد، فما كان من الملك ونائبه إلا أن حسما الأمر وقالا بكل وضوح: ما فعله العواد أفكار كتبت بقلم فإذا أردتم محاربته فحاربوه بقلم مثله، فانتهى الأمر عند هذا الحد، وهو ما أبرز وعيا نقديا مبكرا لدى المؤسس ونائبه، لن نعرفه حق معرفته، إلا إذا عرفنا أن ثمة متكلسين بيننا مازالوا يجهلونه أو يتجاهلونه في خصوماتهم الثقافية، رغم أكثر من دال ولقب وهالة تسبق أسماءهم، ورغم أكثر من نصف قرن مرت عليه.
|
عبدالله بن أحمد آل ملحم |
|