لقد كانت شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث تعيش في عزلة عن العالم منشغلة بالنزعات العصبية والقبلية, ثم ظهرت في نجد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى التوحيد وقد نصر دعوته وآزره الأمير محمد بن سعود وأبناؤه من بعده, فتعاهد الإمامان المصلحان على تحكيم شريعة الإسلام ونشر العقيدة الصحيحة في ربوع الجزيرة العربية, فكان هذا العهد بين قوة السلطان وهدي القرآن الكريم هو الأساس والركيزة التي قامت عليها الدولة السعودية في كافة مراحلها حتى آلت في حكمها إلى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله- وأبنائه من بعده فكتب الله سبحانه لهذه البلاد التمكين بفضل تمسكها بكتابه الكريم واعتصامها بشريعة الله تعالى, فهي دولة القرآن الكريم حكماً وتحاكماً وقضاءً ودعوةً وتعليماً, وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر, وأداءً لشعائر الله تعالى, ولنا في ذلك وقفات منها:
- التزام ولاة الأمر -ملوك هذه البلاد- أبناء الملك عبدالعزيز رحمه الله بالمنهج الذي قامت عليه المملكة العربية السعودية وهو هدي القرآن الكريم, فالحكم بالقرآن عقيدة ثابتة تربوا ونشئوا عليها وهم على يقين بأن الحكم بكتاب الله تعالى يأتي في مقدمة مقاصد إنزال القرآن الكريم, فالمملكة العربية السعودية منذ تأسيسها وهي تستمد حكمها من القرآن الكريم وتبني أنظمتها من أصوله, وذلك في جميع قضايا الحكم ومختلف شؤون الحياة, وبذلك أكد النظام الأساسي للحكم في جميع مواده مما أضفى الصبغة الإسلامية على ذلك النظام نصاً وروحاً وشكلاً وموضوعية, وإذا كان القرآن الكريم هو دستور الدولة وكتاب ربها وهو الحاكم على جميع أنظمتها, فلا عجب إذاً أن تجده في الذروة العليا من اهتمام الدولة -وفقها الله- وعناية قادتها. حفظهم الله تعالى، وقد ظهر ذلك جلياً في خطاب البيعة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- حيث عاهد الله تعالى أن يحكم بالقرآن الكريم ويعمل به لتحقيق مصالح الأمة, وهذا الالتزام لا نظير له في دول العالم.. حقاً إنهم خدمة القرآن.. أهل القرآن في دولة القرآن.
- الاهتمام بطباعة المصحف الشريف ونشره وتوزيعه في الداخل والخارج حيث يعد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف أكبر صرح طباعي في العالم للقرآن الكريم وهو مفخرة لكل مسلم ومسلمة في أصقاع المعمورة, وهو عمل دعوي ذو آثار طيبة متعددة الجوانب وفيه حفاظ على منهاج الأمة الإسلامية وهوية المسلمين, والمجمع لا يقتصر على مجالات الطباعة والإصدارات الصوتية فحسب, وإنما له أنشطة أخرى متعددة في خدمة القرآن الكريم والسنة ومن أهمها إجراء البحوث والدراسات المتخصصة في القرآن وعلومه, وطباعة المصحف على نظام برايل وغيرها.
- انطلاقاً من النهج الريادي للملكة العربية السعودية وجهودها الخيرة في خدمة كتاب الله تعالى وأداء الأمانة الملقاة على عاتقها تجاه القرآن الكريم جعلت الدولة -أيدها الله تعالى- من مقاصدها الأساسية تعليم كتابه الكريم في شتى مراحل التعليم النظامي, ابتداء من مرحلة رياض الأطفال إلى المرحلة الجامعية في جميع التخصصات الشرعية واللغوية والعلوم الأخرى, بالإضافة إلى العناية بتعليم القرآن الكريم في مدارس ومعاهد متخصصة كمدارس تعليم القرآن بمراحلها (الابتدائية والمتوسطة والثانوية) ومعاهد القرآن الكريم وعلومه, والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
- احتضان الدولة -وفقها الله تعالى- للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ورعايتها مادياً ومعنوياً, لما لهذه الجمعيات من دور تربوي فاعل في المجتمع مع ما تسهم فيه من عمارة معنوية لبيوت الله تعالى بإقامة حلقات التحفيظ فيها للبنين, بالإضافة إلى تعليم فتيات وسيدات المجتمع للقرآن الكريم وتحفيظه في الدور النسائية, وقد أنشئت هذه الجمعيات في المناطق وتوسع نشاطها بإنشاء فروع ومكاتب لها في شتى مدن ومحافظات المملكة وامتد دورها أيضاً ليشمل حلقات التحفيظ الإصلاحية التي تعقد في السجون ودور الملاحظة والأحداث، وقد خصصت إعانة سنوية من ميزانية الدولة لتلك الجمعيات وخصص جزء من موارد الأوقاف في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم الخيرية، ولم يقتصر دور الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم على المدنيين بل شمل أيضاً العسكريين في جميع القطاعات.
- مساهمة الهيئات والجمعيات والمراكز العلمية في خدمة كتاب الله تعالى, فقد خصصت رابطة العالم الإسلامي إدارة خاصة بإدارة شؤون القرآن الكريم تعنى بتوزيع المصاحف والترجمات إلى مشارق الأرض ومغاربها, كما تقوم بتوظيف معلمي القرآن الكريم وانتدابهم إلى أرجاء العالم لتعليم القرآن الكريم بدعم من الدولة, وأسهمت هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية بدعم من الدولة أيضاً في برنامج تحفيظ القرآن الكريم لأبناء المسلمين في العالم, كما أسهمت المراكز الإسلامية والأكاديميات والكراسي الجامعية في خدمة كتاب الله تعالى, وقامت المملكة بصفتها عضواً فعالاً في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بإنشاء مختبر لصون المخطوطات القديمة للقرآن الكريم في المسجد الأقصى, وتمارس (الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه) نشاطاتها المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه وتعمل على تطوير العلوم والمعارف النظرية والتطبيقية وتقديم الاستشارات والدراسات العلمية والتطبيقية للقطاعات العامة والخاصة.
- ولا يخفى على أحد أهمية تحفيز الشباب والفتيات وغيرهم لحفظ القرآن الكريم والتخلق بخلقه وقيمه وآدابه لذا كان اهتمام قادة هذه البلاد -حفظهم الله تعالى- بتحفيز الحفظة والحافظات على كافة المستويات العمرية بإقامة المسابقات القرآنية وبالإشراف المباشر عليها, يأتي في مقدمة هذه المسابقات مسابقة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الدولية لحفظ القرآن الكريم وتلاوته وتجويده التي يشارك فيها حفظة من شتى بقاع الأرض, وتزخر المملكة بالعديد من المسابقات القرآنية التي يرعاها ويدعمها ولاة الأمر حفظهم الله تعالى وأمراء المناطق والمحافظات ومنها: مسابقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم وتلاوته، جائزة الأمير سلطان الدولية في حفظ القرآن الكريم للعسكريين، مسابقة الأمير سلمان بن عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم، جائزة الأمير محمد بن سعود بن عبدالعزيز لحفظ كتاب الله الكريم بمنطقة الباحة، مسابقة الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز للقرآن الكريم لأوائل أندية المملكة، مسابقة الأمير سلطان بن سلمان لحفظ القرآن الكريم للأطفال المعاقين، مسابقة القرآن الكريم بالحرس الوطني، مسابقة الأمير محمد بن فهد بن جلوي -رحمه الله- بالأحساء، مسابقة الأبرار لحفظ القرآن الكريم وتجويده وترتيله بمنطقة مكة المكرمة.. بالإضافة إلى ذلك فهناك مسابقات كثيرة على مستوى المناطق والمحافظات وبعض القطاعات والمؤسسات, ومسابقات بمسميات بعض الأفراد المحسنين ورجالات العلم الشرعي.
وقد امتدت الأيادي الكريمة لقادة هذه البلاد إلى دعم عدة مسابقات في حفظ القرآن الكريم في العديد من الأمصار العربية والإسلامية.
- حظي القرآن الكريم من قادة هذه البلاد بأهمية خاصة في الجانب الإعلامي من حيث المحافظة على الثوابت والاهتمام بنشر كتاب الله تعالى وعلومه من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة فقد ضربت إذاعة القرآن الكريم أروع الأمثلة في خدمة كتاب الله تعالى منهجاً ومصداقية وانتشاراً, وأصبحت أنيس المسلم في حله وترحاله في أنحاء العالم.
- لقد من الله على أبناء هذه البلاد بالنية الصادقة, والرغبة المخلصة في خدمة كتاب الله وذلك بتعليمه وتحفيظه لأفراد المجتمع صغار أو كباراً ذكوراً وإناثاً, أو بالمساهمة الفعلية في دعم جمعيات التحفيظ لأداء رسالتها على الوجه المطلوب, أو بتكريم الحفظة لكتاب الله تعالى وإنزالهم المنزلة التي تليق بهم.
وهكذا.. فقد أسست هذه الدولة على قيم ومبادئ القرآن الكريم وتربى وتخلق أبناء هذه الأمة بخلق القرآن الكريم واستمدوا بذلك أصولاً وقيماً من ولاة الأمر حفظهم الله في كافة مراحل حكمهم, وأصبح القرآن الكريم منهجاً للحياة في جميع شؤون هذه البلاد من عهد المؤسس الوالد جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله تعالى-, فالمملكة العربية السعودية هي دولة القرآن علماً وعملاً, وفي هذا العهد الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظهما الله- تعلو منارات الخير شامخة بمساهمات متواصلة لهذه البلاد الطاهرة في خدمة كتاب الله تعالى داخل الوطن وخارجه, فحقاً لا جدال فيه بأن المملكة العربية السعودية هي دولة القرآن. نسأل الله لها ولحكامها ومواطنيها وجميع المسلمين الإيمان والأمن والاستقرار.. آمين.
* القاضي بالمحكمة العامة بالجفر في الأحساء
رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في الأحساء