الباحة - خاص ب«الجزيرة»
أكد فضيلة الشيخ د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض أن تعدد الرؤى الفقهية أمر مهم، ويدل على سعة هذا الدين وشموله، ولكن يجب أن تكون هناك خطوط يلتزم بها جميع من يقومون بالفتوى، خصوصاً في قضايا النوازل، التي تُثار حولها العديد من التساؤلات.
وقال د. الطريقي: إن التعددية ليست خيراً محضاً ولا شراً محضاً، بل وليست مقصداً في ذاتها، ولكنها أمر واقع بسبب الطبيعة البشرية، فإذا أحسنت الأمة استغلالها، والاستفادة منها، يصب في المصلحة العليا لها.. جاء ذلك في حوار ل(الجزيرة) مع د. عبدالله الطريقي.. وفيما يلي نصه:
* كيف ترون تعدد الآراء في الفتوى في العصر الراهن؟
- تعدد الآراء كان شائعاً في عهد الصحابة، ولا سيما في النوازل، والقضايا التي استجدت في عهدهم، فقد اختلفوا في مسائل كثيرة، في المواريث، وفي أحكام الأسرة، وفي بعض المعاملات.. وغيرها، هذا أدى إلى خلافهم في تفسير كثيرٍ من القرآن الكريم.. ثم في عهد التابعين استجدت قضايا فاختلفوا فيها، مثلما اختلفوا في المسائل التي اختلف فيها الصحابة.. ثم وجدت المذاهب الفقهية (أو المدارس) المختلفة، وفي مقدمتها مذاهب الأئمة الأربعة (أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل).
واستمر الخلاف بين العلماء حتى عصرنا هذا، إلا أن ثمة فرقاً بين الخلاف في القرون المفضلة، والخلاف فيما بعدها من القرون، إذ يلحظ أن الخلاف في القرون الأولى كان رحمة وسعة على الأمة، فقد أخذت الأمة بهذا الفقه البناء، دون أن يكون فرقةً أو نزاعاً، أما في القرون التالية فقد ترتب على الخلاف بعض الشر كالفرقة، والتدابر، والتعصب.
لذا يمكننا القول إن التعددية في ذاتها ليست خيراً محضاً، ولا شراً محضاً، بل وليست مقصداً في ذاتها، ولكنها أمر واقع بسبب الطبيعة البشرية، فإن أحسنت الأمة استغلالها، والاستفادة منها، أمكنها ذلك، وإن أساءت استغلالها كانت شراً وفرقةً وعذاباً.
ومما يؤكد أن التعددية أمر كائن لا محالة، ما يشهد له واقع العلماء منذ عهد الصحابة، حتى الآن، حيث تجد المدارس المختلفة، باختلاف مصادرها أو أدلتها، وتفسير الأدلة وفق الفهوم والقدرات الذهنية، والمؤثرات النفسية والاجتماعية، واختلاف الظروف.. ونحو هذا، بل تجد التعددية عند العالم الواحد في المسألة الواحدة، ويكفيك مثالاً على هذا تعدد الروايات والأوجه عند الإمام أحمد في مسائل لا تحصر، وقد ألفت في هذا كتب كثيرة، ومن أبرزها كتاب (الإنصاف للمرداوي)، ناهيك عما كتب عن مسائل الإمام أحمد، مما جمعه تلاميذه.
* ما الخلاف السائغ وغير السائغ في الفتاوى المتداولة؟
- يمكن تقسيم الخلاف في أصله إلى أقسام أربعة:
1- خلاف كلي، حقيقة ومجازاً.
2- خلاف كلي، حقيقة لا مجازاً.
3- خلاف جزئي، حقيقة لا مجازاً.
4- خلاف جزئي، مجازاً.
فالأول: هو الخلاف بين الإسلام والكفر، أو بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل، والنحل من المشركين، والصابئة، والملحدين، وأهل الكتاب.
والثاني: يتمثل بالفرق والنحل التي تتظاهر بالانتماء للإسلام، ولكنها تبطن الكفر، وأشهرها ما يُعرف بالفرق الباطنية، كالإسماعيلية، والنصيرية، والدروز، والقاديانية، والبهائية، وأصحاب وحدة الوجود، فانتماؤهم للإسلام مجازي.
والثالث: يتمثل بالفرق الإسلامية المشهورة، وما تفرع منها، وهي: الخوارج، والشيعة، والمعتزلة، والجبرية، ويلحق بها كثير من الفرق الصوفية.. فمثل هذه الفرق هي مسلمة دون شك، ولكن بينها وبين منهج الحق خلاف كبير، ولكنه لا يخرجها من دائرة الإسلام.
والرابع: يتمثل بخلاف الفقهاء على الجملة، فهو خلاف جزئي يتعلق بفروع الدين، وليس بأصوله ولا بثوابته، ومعظمه قائم على الاجتهاد، ولذلك يمكن تصنيفه في دائرة الخلاف المجازي لا الحقيقي، مثلما هو جزئي لا كلي.
وبناء على ذلك فإنه يكون من الواضح أن القسم الأول غير سائغ ولا مقبول، بل هو شر محض ودلائل ذلك قطعية، ومثله القسم الثاني، فإنه شر محض أيضاً لأنه نفاق وزندقة، أما القسم الثالث فهو غير سائغ أيضاً لأنه قائم على بدع كلية فاحشة، بيد أنهم محسوبون من جملة المسلمين، ويقرون على طرائقهم، ما داموا قائمين بالشعائر الإسلامية الظاهرة مع المسلمين، دون أن يسمح لهم بنشر بدعهم.. أما القسم الرابع فهو الخلاف السائغ دون شك ما دام منحصراً في دائرة "مسائل العمل المختلف فيها"، وإذا كان سائغاً فلا يجوز أن يكون سبباً في المنازعة والعصبية والفرقة، ويكون من الجائز الأخذ بأي من الأقوال في المسألة الواحدة، وفق الضوابط المعتبرة.
* بصراحة، من المفتي المعتبر؟
- كثير هم الذين ينتصبون للإفتاء في كل زمان، وفي معظم الأمكنة، سواء المتأهل للإفتاء، وغير المتأهل، ولما كانت الفتوى إخباراً عن حكم الله ورسوله في القضية النازلة، أو المسؤول عنها، وهي توقيع عن رب العالمين كما يقول ابن القيم، كذا كان من المهم معرفة صفات المفتي المعتبر، وشروطه.
يقول ابن الصلاح - رحمه الله - في كتابه (آداب المفتي والمستفتي): (وشروط المفتي أن يكون مكلفاً، مسلماً، ثقةً، مأموناً، متنزهاً من أسباب الفسق، ومسقطات المروءة.. ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، مستيقظاً).. وذكر ابن القيم عن الإمام أحمد - رحمه الله - قوله: (لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، والثالثة: الكفاية، وإلا مضغه الناس، والرابعة: أن يكون قوياً على ماهو ما فيه وعلى معرفته، والخامسة: معرفة الناس).
وقد تناقل كثير من الفقهاء والأصوليين مثل هذه الشروط، ولا شك أنها متى اجتمعت وتوافرت في شخص كان أهلاً للإفتاء، لكن قد ينخرم بعضها فما الموقف عندئذ؟ الذي يظهر أنه ينبغي على المستفتي التحري والبحث عن الأمثل فالأمثل، ولذلك يذكر العلماء مسألة (فترة الشريعة) بعدم وجود عالم مجتهد أو معتبر في الدنيا، وهي مسألة افتراضية بعيدة الوقوع، إذ لا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق منصورة، وهذا يقتضي استمرار وجود العلماء، مهما قلوا.
إلا أنه قد تنزل بالعامي نازلة وهو في مكان لا يجد من يسأله عن حكمها، فما الحكم عندئذ؟ ذكر ابن القيم أن للناس طريقين أو رأيين هنا، الأول: ان له حكم ما قبل الشرع على الخلاف في الحظر والإباحة، والوقف.. الثاني: انه يخرج على الخلاف في مسألة تعارض الأدلة عند المجتهد، هل يعمل بالأخف أو الأشد؟ أو يتخير؟ والصواب - كما يقول ابن القيم - انه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفته، ومعرفة مثله، إذ قد نصب الله على الحق أمارات كثيرة.
* هل يلزم اتباع مذهب معين في الفتاوى؟
- التساؤل هنا يشمل المفتي والمستفتي، ولا شك أنها قضية ذات شأن كبير، ولا يمكننا في عجالة أن نوفيها حقها من البحث، فهي مرتبطة بقضية أكبر، هي (الاجتهاد والتقليد)، ومع أن أكثر أهل العلم على جواز التقليد في حق غير المجتهد، إلا أن لهذا التقليد شروطاً أهمها: أن يكون على بصيرة ووعي، بحيث يلزم المسلم عندما يقلد عالماً أن يتحرى الحق بتعلم ما استطاع، وأن ينظر في العالم هل هو أهل أن يتبع؟ سواء من حيث سلوكه، أو من حيث علمه.
هذا في حق المسلم العامي.. أما المسلم المتعلم أو العالم غير المجتهد، فإنه يلزمه البحث والنظر في كل حادثة أو مسألة قد اختلف فيها، سواء في إطار أصول مذهبه، أو في إطار أصول المذاهب الإسلامية المعتبرة، ولذا يرى كثير من أهل التحقيق أن المسلم غير ملزم باتباع مذهب معين لا يحيد عنه في مسألة، فإذا ساغ التقليد في الجملة، فليس مقتضى ذلك التزام المذهب في كل مسألة.. وهذا ما يظهر من اختيار الإمام ابن تيمية ومنهجه، قال ابن القيم: (الصواب المقطوع به أنه لا يلزم العامي المتمذهب.. بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به، فالعامي لا مذهب له).
* ما موقف المستفتي تجاه تعدد الفتوى؟
- من الناحية النظرية يذكر علماء الأصول والفقه خلافاً في هذه المسألة، يقول ابن القيم: (إذا اختلف عليه - يعني المستفتي - مفتيان فأكثر، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال؟ أو بأخفها؟ أو يتخير؟ أو يأخذ بقول الأعلم؟ أو الأورع؟ أو يعدل إلى مفتٍ آخر؟ فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها؟ أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ فيه سبعة مذاهب، أرجحها السابع فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين، أو المشيرين).
وأظن أنه ينبغي التفصيل هنا، فيقال: أما بالنسبة للعامي الذي ليس بإمكانه الترجيح بين الأقوال، فالذي ينبغي عليه أن يبحث عن العالم الثقة، إما بسؤال طلبة العلم عنه، أو بحسب الشهرة، فإذا بان له الأمر سأل، أما بالنسبة لطلاب العلم والباحثين في العلوم الشرعية وما يتصل بها، وكذلك أنصاف العلماء، فالذي ينبغي في حقهم أن يبحثوا بأنفسهم عن الحق، إما قراءةً، أو سماعاً، أو مناقشةً ومدارسةً، فإن ظهر الحق أخذ به، وإلا كان له التقليد والسؤال.
وربما كان للأخذ بالقول الأشد أحياناً أو الأخف أو التخير ما يكون فيه مصلحة ظاهرة، فيسوغ العمل به، ولا سيما إذا كان السؤال وارداً من مؤسسة، أو شركة، أو مصلحة حكومية، كمستشفى مثلاً أو بنك.