مما نقله عبدالله فلبي في مذكراته التي حواها كتاب (الرياض في عيون الرحالة) ما ذكره من أن ربع دخل الخزانة الملكية يأتي من عائدات تمور وقمح واحة منفوحة. وقال: (ربما لأنها تشكل سهلاً واقعاً أسفل التلال المحيطة والتي تشكل مصدر مياهه وخصوصاً في ظل توفر قنوات صرف جيدة تغذى بمياه السهول).
وأتوقف عند هذه النسبة المذكورة وأرى أنها غير صحيحة، ولا أظن أن منفوحة قادرة أن تسد ربع دخل الخزانة للدولة، لأن مساحتها المزروعة في ذلك الزمان غير قادرة على الإتيان بهذه النسبة، كما أن هناك من المناطق ما يفوقها إنتاجاً لوفرة المياه واتساع المساحة.
ولفت نظري ما أشار إليه في قوله: (ومن هناك تحركنا لزيارة محمد بن عبدالرحمن، أخي ابن سعود الأكبر الذي يواجه منزله السور الشرقي في القصر. وعند الباب الخارجي قرأت كلمات منقوشة على الجدار (بيت خالد) تدل على أن المبنى كان مقر إقامة أم الابن الأكبر لمحمد واسمه (خالد). والأمير خالد -رحمه الله- الذي أشار إليه فلبي هو والد الأمير فهد والأمير سعد -رحمهما الله-، والأمير سعود مد الله في عمره، ومن عرفهم وأبناءهم عن قرب ظهر له فيهم جبلة الوفاء ودماثة الخلق. ولم يعتد سكان الرياض كتابة مثل هذا على منازلهم، غير أنها نقشت بيد أحد من الناس من باب التسلية.
ومما قاله فلبي: (وقبل غروب الشمس تجمع حشد كبير من الناس على سطوح المنازل رافعين رؤوسهم، وكان معظم الموجودين من النساء لمقدرتهم على الرؤية أكثر من الرجال.)، هذا القول في سياق الحديث عن ترائى شهر رمضان المبارك، وما خطر على بالي أن النساء يحرصن على رؤية هلال شهر رمضان أكثر من الرجال، سواء في ذلك الزمان أو زماننا هذا، وما أرى عبدالله فلبي إلا أنه جانب الصواب فيما ذكر، لا سيما قوله لمقدرتهن على الرؤية أكثر من الرجال. ولم أسمع قط أن دخول الشهر أو خروجه قد صح بشهادة أربع نساء أو أكثر، وربما أن النساء في ذلك الزمان يتراءين الشهر للمتعة فقط، وليس حرصاً منهن على إثبات دخوله وخروجه من عدمه، وفيما يبدو أنه تأثر بقصة زرقاء اليمامة وحدة بصرها، فأصبحت في ذهنه فكرة نمطية مثلما تكون الأفكار النمطية التي تحكم بها على الآخرين ويحكم بها الآخرون علينا.
ومما ذكره عبدالله فلبي قوله: (كنت مؤخراً قد شاهدت هندياً في البلدة، وبسؤال ابن سعود أجابني بأن مجموعة قد وصلت وهي في طريقها إلى مكة المكرمة كما يفعلون كل عام، وغالبيتهم من الدراويش شاقين طريقهم بشكل رئيسي على الأقدام، معتمدين على كرم أهل هذه المنطقة، ولرخص الأسعار أخذوا في شراء الغذاء للمرحلة الأخيرة من رحلتهم).
والواقع أن هؤلاء المسلمين القادمين من شبه القارة الهندية وغيرها يتكبدون عناء السفر مدفوعين برغبة جامحة لأداء فريضة الحج على أرجلهم طلباً لما عند الله، وهذا فعل رائع سينالون جزاءه عند بارئهم بإذنه تعالى إن صلحت النوايا.
ونحن نحسبهم كذلك. وذكر لي أحد الأصدقاء أن هناك أسراً في نجد هم من أبناء هؤلاء المسلمين المخلصين الذين طاب لهم المقام في وسط المملكة عند رحلة العودة من مكة المكرمة.
ويذكر عبدالله فلبي ألا أثر للبعوض في الرياض، فهو لم يره أبداً في فصل الصيف، وقد يكون ذلك صواباً لقلة الماء وشدة الحرارة، ولو عاش حتى رأى الرياض اليوم، لكان عجبه أكثر لكثرة ما يصيبه من إزعاج جراء لسعاتها المتواصلة، وكأنها من حبها لا تكتفي بملامسة جلودنا لتعبر عما يغمرها من حب وهيام، بل تأبى إلا أن تمص دماءنا تعبيراً عن ذلك الحب بعد أن تعسر عليها مص الرضاب من الشفاه.
وأتى الكتاب على انطباعات عدد آخر من الرحالة لا تتسع هذه العجالة التعليق على بعض ما ذكروا، غير أنه استوقفني ذكر أحدهم وهو (إيجيرو ناكانو) الذي زار الرياض عام 1358 الموافق 1939م بأن الطحالب الجافة تباع لتؤكل. فهل كان الطحالب فعلاً في الرياض أكلة شهية وطبقاً مفضلاً في بلد صحراوي، وكأننا حاكينا اليابانيين في أكلهم الطحالب، أم أن الأمر التبس عليه؟ فلعل الملوخية كما نسميها في المشرق العربي، وليس الملوخية التي يطلق عليها البامية لدينا في المغرب العربي، هي طحالب صاحبنا، وآمل أن يفيدني من لديه علم بذلك، فربما أجهل وجبة كانت سائدة لدينا في الرياض لم أعهد أن أحد الأقارب من كبار السن قد ذكرها، مع أن تاريخ مذكرات السيد (إيجيرو) ليس بعيداً.
ومن أولئك الذين كتبوا عن الرياض، دبلوماسي عراقي يقال له أمين المميز عمل وزيراً مفوضاً لدى المملكة العربية السعودية وكتب فيها عن الفترة التي عاشها في المملكة 1373هـ الموافق 1954م، ومما ذكر قوله: (وكان الأمير تركي بن فيصل بقامته الفارعة وهندامه الجميل واقفا في خدمة الملك وإلى جنبه أمير آخر خجول الوجه بهي الطلعة يبدو في العقد الثاني من عمره، وهو الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض) ومما قال عن مناسف الأكل: (ودرنا بين هذه المناسف والناس يأكلون ويشكرون ويدعون، وأمير الرياض يتنقل بينهم يكرمهم وينثر عليهم ألطافه ويوزع بينهم ابتساماته).. رحم الله الأمير فيصل بن تركي. وقد وصف الأمير سلمان بعد أن أبصر فعله ومظهره، ولو طال به الثوى وعرف ما يخفى، وبان له المخبر بعد إبصاره المظهر، لزاد في مداده، وما بلغ مراده، فوصْفُ مخبر الأمير قد يعييه، لحسن ما فيه.
وبهذا أتوقف عند هذا الباب، بعد أن أكملت الكتاب، لأعاود الكتابة القادمة في مواضيع شتى تطرق بابي كلما عنَّ لها، وأبحث عنها إذا زهت بنفسها، فإن زارتني فبفضلها، أو زرتها فلفضلها، فالفضل في الحالين لها.