الفلسفة كما قرأت تُعرّف بأنها دراسات فكرية فرضية، غير الدراسات التي تقررت بالوقائع والتجارب المحسوسة.
|
والفلسفة التي أعنيها هنا فلسفة المتنبي لبعض جوانب الحياة، وإن كان ينتمي لعصر غير عصرنا وجيل غير جيلنا إلا أن الكثير من مبادئه وتفسيراته تتفق مع واقعنا؛ ما يدل دلالة واضحة أن الإنسان هو الإنسان سواء كان في وقتنا الحالي أو الماضي قبل مئات السنين، وإن تغيرت طريقة الحياة, وبعض المفاهيم، إلا أن الأصول ثابتة، والمعاني السامية الأصيلة التي تروق لإنسان العصر الحجري مثل الكرم والشجاعة وحسن الخلق.. وغيرها، هي نفسها تروق لنا في عصرنا هذا. وما تنفر منه النفوس قديماً من ظلم وقهر وألم... وغيره، هو نفسه ما تنفر منه وتأباه نفوسنا.
|
من خلال قراءتي لبعض شعر المتنبي، وددت الإشارة إلى فلسفته تجاه أمور كثيرة في الحياة، وسأبدأ بفلسفته للمصائب والمحن، كفانا الله وإياكم شرورها، ما ظهر منها وما بطن. يقول:
|
كفا بك داء أن ترى الموت شافياً |
وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
فيكفي من الهمّ أن ترى الموت أهون منه، فحينما تكون المنية أمنية فقد بلغ صاحبها أقصى مبلغ من الألم والحزن.
|
وحينما تمنى (المتنبي) الموت استعصى عليه، وكأن الموت يخافه ويهرب منه، وبدا أنه مطلب صعب المنال أيضاً، فيقول في بيت آخر:
|
يحاذرني حتفي كأني حتفه |
وتنكزني الأفعى فيقتلها سمي |
ولا يجدي مع ذلك عويل وولولة ولهف فيقول:
|
أُردد ويلي لو قضى الويل حاجةٌ |
وأكثر لهفي لو شفى غلّة لهفُ |
|
كيف الرجاء من الخطوب تخلصا |
من بعد ما أنشبن فيّ مخالبا |
يتمنى الخلاص من الأمور الثقيلة على نفسه، ولكن هيهات بعدما علقت مخالب الخطوب، والحوادث الأليمة به, فيشبه الهموم بجوارح الطير التي هي بمنزلة الظفر من الإنسان وقد تمكنت منه، وكأنه هو المستهدف بعينه من قبل فواجع الدهر ومصائبه ومع سبق الإصرار والترصد فيقول:
|
ونصبنني (أي المصائب) غرض الرماة تصيبني |
محنٌ أحدّ من السيوف مضاربا |
وفي البيت التالي يوضح أن نصيبه من الدنيا الحرمان والمصائب، ويصور ذلك بأسلوب مؤثر، يثير في النفس الشجن، ويحرضها على التعاطف معه والحزن، فيقول:
|
أضمتني الدنيا فلمّا جئتها |
مستسقيا مطرت عليّ مصائبا |
ويمعن المتنبي في وصف حالة الألم التي تصيب الإنسان بسبب الهموم حتى أنها لتطال كامل أعضاء الجسم، وإن كان محل الهم القلب، فيقول:
|
حتى كأن لكل عظم رنة |
في جلده ولكل عرق مدمعا |
وفي وصفه هذا مصداقية لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (.... إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
|
يوضح المتنبي أن من أسباب نكد العيش وتنغيصه على بني الإنسان عدو يتربص به ويضيق عليه في الوقت الذي لا يستطيع الفكاك منه والبُعد عنه كأن يكون قريباً أو رئيس عمل فيقول:
|
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى |
عدوا له ما من صداقته بد |
|
واحتمال الأذى ورؤية جانيه |
غذاء تضوى به الأجسام |
أي أن الصبر على الإساءة والإقامة على رؤية المسيء يورثان دوام الكمد والنكد، ويكون ذلك سبب مرض وهزال للأجسام.
|
وأختتم هذه المقالة بمطلع قصيدة له، يقول في الشطر الأول منها:
|
جللا كما بي فليكُ التبريح
|
أي هكذا يكون التبريح والهم والألم وإلا فلا.
|
ومنيرد الاستزادة فدواوين المتنبي زاخرة بالأمثلة التي تجسد الحاضر وهمومه التي نحياها.
|
|
إِنعمْ ولذّ فللأمور أواخرٌ |
أبدا إذا كانت لهنّ أوائل |
|
|