جُل الناس يعيشون حياة (طموحة) في بعض تفسيراتهم.. و(متأفقة) في بعض التفسيرات الأخرى، وإن كنت أرى أن كلا التفسيرين يصبان في ذات الإناء (إناء عدم الرضى).
كثير من آمالنا وطموحاتنا قد تحققت وعشناها واقعاً نشكو منه ومن ضغوطه والتزاماته.. فقد كنا في يوم من الأيام نحلم أحلاماً ونؤمل آمالاً يفصلنا عنها زمان وقَدَر.. من آمالنا تلك التي نشترك فيها جميعاً أن ننال مصدر رزق يؤمن لنا الاستقرار في حياتنا ويساعدنا على بداية السير بخطى متوازنة تصل بنا إلى المبتغى.. ثم ها نحن نحيا اليوم أملنا واقعاً نتأفف منه ومن ضغوطه والتزاماته بعد أن كان حلماً نتوسده ونغمض أعيننا عليه؟ تُرى ما الذي غيّر مسار التفكير فينا؟ وما الذي جعلنا ننظر بنظرة بها قدر من التشكي من تلك (الآمال) التي أضحت واقعاً ملموساً نتندر به ونبث همومنا فيه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟
حالنا هذه تذكرني بقصة كنت قرأتها عن أستاذ جامعي اجتمع بعدد من طلابه بعد تخرجهم وتوليهم مناصب كانوا يطمحون لها بل كان طموحهم يقتصر على أقل منها.. فقد اجتمعوا لدى أستاذهم يمسكون أطراف ذكرياتهم وينثرون حبائل واقعهم.. يبثون همومهم وشكواهم من ضغوط أعمالهم وقلقهم وتوتر أعصابهم وكبر المسؤوليات التي تقع على عواتقهم فتنسيهم لذة الاستمتاع بحياتهم.. وبينما هم ينثرون كل هذه الهموم على مائدة اجتماعهم غاب عنهم أستاذهم قليلاً يعد لهم (القهوة).. وما إن فرغ منها حتى قام بسكبها في أكواب متفاوتة في المظهر والقيمة، فتلك أكواب كريستالية، وتلك زجاجية وبلاستيكية وفخارية.. منوعة ما بين الرديء والثمين، ثم قدمها لهم، فكانوا يتهافتون على جميل تلك الأكواب قيمة ومظهراً، وكل منهم ينظر لما امتلكه صديقه من كوب!.. فقال لهم أستاذهم: أما لاحظتم أن الأكواب الجميلة هي التي لفتت انتباهكم ووقع عليها اختياركم؟ إن دل هذا على شيء فإنما يدل على طموح كل منكم وسعيه للأفضل، وهذا جيد، لكن هذا بالضبط هو ما يسبب لكم القلق والتوتر! على الرغم من أنكم بحاجة فعلية للقهوة وليس للكوب! ولكن بات كل منكم يسعى للأفضل ويراقب كوب الآخر.. على الرغم من أنكم جميعاً ستشربون من ذات (القهوة).. ما القهوة إلا كالحياة وما الأكواب إلا كالمكانة والمنصب والمال وقد أفقدكم الاهتمام بالأكواب لذة الاستمتاع بالقهوة، كما أفقدتكم المظاهر والمناصب لذة الاستمتاع بالحياة.
حقاً ما قال فليست الحياة إلا قهوة قد تكون مرة.. لكن كثيراً منا يستسيغ مرارتها ويستمتع بها لذاتها لا لما سكبت فيه.. وقد تكون محلاة لا يجد فيها مرتشفها لذة المزاج التي انشغل عنها بتفقد ما قُدمت فيه.
almdwash@hotmail.com