ما هي أبرز ملامح الصحراء، وهل هي مكون أساس من مكونات ثقافتنا المحلية والعربية، وكيف يمكن لنا ونحن نعيش عصر المدنية والحضارة المادية المعاصرة أن نعود للصحراء من جديد، نعود لنقرأ تراثها، لنقلب صفحاتها، ولنتعرف على أسرارها ونفتش في خباياها، نعود لنقول للعالم كله نحن هنا في الصحراء، ليس هذا فحسب بل نروج ونسوق ما يسمى بسياحة الصحراء، وهل سيكون هذا التوجه في هذا الوقت بالذات توجها إيجابيا أم أنه سيولد انتكاسة وعودة إلى مفاهيم الرجعية والتخلف، عودة إلى أحضان القبيلة وأخلاقيات الشتات؟ أسئلة عدة دارت في خاطري لحظة كتابة هذه المقال، تولدت هذه التساؤلات عرضاً جراء متابعتي لفعاليات مهرجان تراث الصحراء في منطقة حائل.. إن الصحراء عند الكثير منا تعني فقط شظف العيش ومشقة الترحال المتواصل ومظنة التيه وغلبة التهلكة عطشاً أو جوعاً.. الصحراء في نظرنا هي مأوى الوحوش ومسكن الجن ومهب الرياح العاتية، ليس هذا فحسب بل هي تورث مشاعر الذل والهوان وتكسب صفات القسوة والجلافة وتحول دون تواصل الإنسان مع الثقافة والتحضر.. هذه النظرة السلبية لهذا المكون الأساس في خارطة وطننا الكبير المملكة العربية السعودية هي النظرة السائدة عند الكثير منا، بل هي النظرة المستقرة في الذهنية العربية للصحراء، وهي في اعتقادي نظرة أحادية ليست صحيحة على إطلاقها، نظرة تركز على البعد السلبي، تنظر لنصف الكوب فقط، ومن عشق الصحراء وتنقل بين الرمال وصعد الجبال ونام في السهل وتقلب في الروض، من جلس يرقب الشمس حين الغروب، واستيقظ ليرى كيف يتنفس الصبح، من عاش لحظة تفكر في الكون وتأمل في النجوم، ونظر نظرة تدبر وتمعن في الأفق الواسع عند عسعسة الليل من... ومن... عرف ماذا تعني الصحراء، علم الوجه الآخر للصحراء، ولعلني أستشهد هنا بما جاء على لسان صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز أمير منطقة حائل في تصريحه ل(الجزيرة)؛ إذ قال: (يخطئ من يظن أن الصحراء ترمز للعطش وتدل على النهاية فهي مفتاح لحياة جديدة أفضل، وفيها من القيم والمعاني الشيء الكثير وبالإمكان الاستفادة منها وتحقيق موارد مضاعفة للمنطقة بإذن الله).
إن للصحراء عند العرب نحوًا من أربعين اسماً جميعها تلمح فيها معنى الصفة وتلحظ دلالتها على ما تمتاز به الصحراء من التنوع والاختلاف، وفي هذا الاختلاف دلالة على أن للصحراء وجهاً آخر لا يقل حضوراً وفاعلية عن الوجه السلبي المعروف، لكن لا يعرف هذا الوجه إلا من عرف كيف هي الصحراء وتعلم كيف يعيش فيها!!، وكلا الوجهين شئنا أم أبينا حاضرين في ثقافتنا ومكون أساس من مكونات تراثنا الأدبي والفكري ولهما تأثير مباشر على تفكيرنا المجتمعي والفردي سلبياً كان هذا التأثير أو إيجابيا، وأخلاقيات الصحراء وسلوم العرب وقيم البادية ليست كلها سلبية كما يعتقد البعض بل إن هناك قيما وأخلاقيات وسلوما عديدة نفتخر بها، يشرفنا وجودها وبقاؤها حتى اليوم، وأفضل من كتب عنها ورصد بعض ملامح هذه القيم والأخلاقيات هم الرحالة الغربيون والكتاب المستشرقون وللأسف الشديد، وهذا التراث العلمي المتناثر حقه علينا، حقه على جامعاتنا السعودية حصره وقراءته قراءة تحليلية واعية ومن ثم توظيفه الإيجابي منه في مشروعاتنا النهضوية التنموية, وتربية أبنائنا عليه، فالكرم والجود والصبر والتسليم والرضا والإيمان بالقدر والفراسة ومعرفة منازل الناس والشكر على الجميل و... هي لبنات مهمة في بناء الشخصية الصحراوية والشعر العربي والتراث الاستشراقي فيه من الشواهد والبراهين الشيء الكثير، وهذا الوقت بالذات وقت التأزم النفسي نتيجة زحف الماديات وسيطرتها على حياتنا، زمن السرعة وصراع الذوات هو في نظري الوقت المناسب للبحث عن الهدوء والهواء النقي في الصحراء وفي الهضاب وعلى قمم الجبال، ولذا اهتمت العديد من الدول التي تملك مناطق صحراوية، بالسياحة في هذه المناطق، وولد نتيجة ذلك مصطلح جديد في قاموس السياحة العالمية سمي (السياحة الصحراوية)، وقد خطت الكثير من الدول العربية خطوات جيدة في هذا المجال كما فعلت بلدان المغرب العربي تونس وليبيا والجزائر، وحذت دولة الإمارات العربية المتحدة نفس الخطوات من خلال إنشاء بنى تحتية ومرافق في المناطق الصحراوية وتنظيم رحلات إلى هذه المناطق وإقامة مهرجانات تعرّف بهذه المناطق وتاريخها وحضارتها.. وحائل مرشحة وبقوة لتفعيل السياحة الصحراوية الراشدة والاهتمام بتراث الصحراء الإيجابي الفعال، لكن الأمر يحتاج إلى معرفة دقيقة بما يؤخذ من التراث الصحراوي وما يترك وكيف يوظف دون أن يكون له تأثير سلبي على الحركة التنموية في المنطقة والنسيج المجتمعي المتماسك في هذا الجزء من الوطن أو ذاك سواء اليوم أو في مستقبل الأيام، يحتاج الأمر إلى حرفية وخبرة ووجود مؤسسات تسويقية متخصصة واكتمال بنية تحتية داعمة ومشجعة، وهذا لن يتأتى بالأماني والأمل، بل يتطلب عملا منظما وتخطيطا مسبقا ودعما وتوجيها من صاحب القرار والسلام.