الفتوى من الأمور الجليلة الخطيرة، التي لها منزلة عظيمة في الدين، قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ..}(النساء: 127). قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ..}(النساء: 176)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى هذا الأمر في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته، وكلفه ربه بذلك قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(النحل: 44). والمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، والمفتي موقع عن الله تعالى، قال ابن المنكدر: (العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم). والمفتي إنما هو العالم بالمسألة التي يفتي فيها، تأسيساً لا تقليداً، مع ملكة في النظر، وقدرة على الترجيح والنظر المستقل في اجتهاد من سبقوه، لا مجرد نقل وحكاية الأقوال. فإن أقدم على الفتوى بمجرد الخرص وما يغلب على الظن فهو آثم، وعمله محرم، وقوّل على الله وعلى رسوله بغير علم، وهو يتحمل وزر من أفتاه. فعن مسلم بن يسار قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أفتى بغير علم، كان إثمه على من أفتاه) رواه أبو داود. ولا يشفع له أن يكون أصاب الحق في فتوى بعينها، ذلك ان المفتي إنما يفتي بكلام الله تعالى، أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالقياس عليهما، أو بالاستنباط منهما، وهذه لا يجوز فيها الخرص، وقد قال سبحانه: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}فقسم الناس في هذا الباب إلى عالم وجاهل.
لاحظت كما لاحظ غيري في الفترة الأخيرة كثرة الفتاوى بكل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. وتلك الفتاوى قد يُلقيها علماء دين مشهود لهم بالعلم والمعرفة وقد يلقيها من هو أقل منهم علماً ومعرفة وقد يلقيها كذلك من هو أقل شأناً ولغرض ما في نفسه.
فمن بعد وفاة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يتجرأ كثيرٌ من الصحابة رضوان الله عليه بإلقاء الفتاوى والأحكام، وكان بعضهم يتهرب منها ليس لعدم معرفتهم بالحكم أو الفتوى، بل لعظمتها وأهميتها ولأن العامة ستسير خلف ما تنص عليه الفتوى وانتسابها إلى من أفتى بها. ولأن كذلك الصحابة كانوا يوجهون من يسألهم عنها إلى صحابة آخرين.
الآن وفي زمن الفضائيات والإعلام بكافة وسائله أصبح الكثيرون يفتون بلا مرجعية عامة لفتاواهم وعدم نسبها إلى آخرين ممن سبقوهم أو حتى تبرأ ذممهم. والمشكلة العظمى هي إن البعض يُفتي وكأن فتواه هي الأساس وهي الحكم العام عند بقية علماء الدين المفتين!! فيا ليته يقول (هذا رأيي والله أعلم) أو (فلان قال كذا وعلان قال كذا) أو (المذهب الفلاني يقول كذا والمذهب الآخر يقول كذا) لتبيين عدة فتاوى ولتبيين بأن الفتوى هي اجتهاد من البشر ورحمة لهم فالأيسر والأصلح والأهم هو الذي سيأخذه طالب الفتوى.
كل ما أتمناه ولوجود دار للافتاء يُقيم عليه كبار علماء المسلمين، هو أن يصدر تشريع لتقنين الفتاوى ومنع الآخرين من إلقاء الفتوى للعامة بالوسائل الإعلامية بكل طرقها وكذلك مجازاة من يُفتى بفتوى بدون أخذ رأي دار الإفتاء بهذا الخصوص.