في إحدى مقالاتي بجريدة «الجزيرة» السعودية، منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث كنت أعمل بجانب عملي بجامعة الملك سعود بالرياض، كتبت مقالاً في الثمانينيات من القرن الماضي، توجهت فيه إلى الدكتور (كورت فالدهايم) الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، استطلع فيه إمكانية (طرد إسرائيل من عضوية الأمم المتحدة) ونُشر المقال في عدد جريدة «الجزيرة» رقم 4137 قبل أن أعود إلى القاهرة مراسلاً لها.
ولم أتطرق في ذلك الوقت أين حق الفيتو الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن.. وأين هذا الحق لها في الجمعية العامة للأمم المتحدة إذا ما قدر لها التصويت على إمكانية طرد إسرائيل من الأمم المتحدة.
لكني أعود اليوم بعد أكثر من عشرين عاماً على نشر هذا المقال لأوضح هنا أن حق الفيتو الذي تتمتع به الدول الخمس الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن ليس حقاً لهم في إجهاض قرار الجمعية العامة للمنظمة الدولية إذا اكتمل النصاب القانوني في التصويت طبقاً لنص ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص صراحة على: جواز طرد أي عضو من الأمم المتحدة إذا لم ينفذ قرارات المنظمة الدولية.
لقد صدر ما يزيد على مئة قرار من الأمم المتحدة ضد إسرائيل لم تذعن لتنفيذها، استهانة منها بالمنظمة الدولية، واستهانة منها بالأمم الأعضاء.
وواضح أن إسرائيل لم تذعن لتنفيذ قرار واحد أو قرارين أو ثلاثة أو عشرة.. بل لعشرات القرارات الصادرة ضدها.. مما شجعها على تكرار إقدامها على ارتكاب هذه الجرائم ضد الإنسانية وضد المجتمع كله بسبب استخدام أمريكا لحق الفيتو.
وأنا هنا أثير قضية قانونية قد تساعد المجالس القومية لحقوق الإنسان.. والمنظمات غير الحكومية التي تطالب بتقديم قادة إسرائيل الحاليين للمحاكمة الجنائية لارتكابهم هذه الجرائم الوحشية في عدوانها على غزة والشعب الفلسطيني الأعزل.
ولا شك أن توثيق جرائم إسرائيل ضد الإنسانية، وتكاتف الرأي العام العالمي، وتبني جامعة الدول العربية لملف توثيق هذه الجرائم من شأنه إعلاء قوة الدبلوماسية التي من أجلها أُنشئت منظمة الأمم المتحدة بعد حربين عالميتين راح ضحيتها ملايين من البشر، وأصبحت قوة الدبلوماسية هي ملجأ تحقيق السلام في العالم.
فالدبلوماسية هي المظهر الراقي الذي يحترم القانون الدولي والمواثيق والمعاهدات والقرارات الصادرة من الأمم المتحدة.. بحكم أن هذه المنظمة العالمية هي جزء من النظام العالمي.
أما استخدام القوة المفرطة من جانب إسرائيل والتي تعتمد على الآلات الحربية والقنابل المحرمة والمجرمة دولياً ضد الأطفال والمرضى وكبار السن والنساء.. يعكس النيات الخفية والحقيقية لقادة إسرائيل في عدم احترامهم واعترافهم بالقانون الدولي والقرارات الشرعية: من منطلق أن إسرائيل - بهذا المظهر الوحشي - هي قوة استعمارية فقط بعيدة كل البعد عن أن تكون دولة حضارية جديرة بحصولها على أن تكون عضواً بالأمم المتحدة.
إن استعادة هيبة الأمم المتحدة أمر حيوي للنظام العالمي، والذي إذا لم تظلله هيبة هذه المنظمة، فسوف تستمر إسرائيل في ارتكاب المزيد من هذه الجرائم ضد الإنسانية بما يجعلها أن توصف بأنها: (مافيا) وليست دولة عضو في الأمم المتحدة.
ولذا فإن طردها من عضوية المنظمة العالمية هو الرد القانوني المناسب عن طريق تصويت الجمعية العامة إذ ليس من حق الولايات المتحدة حينئذ أو غيرها استعمال حق الفيتو طبقاً لنص الميثاق.
إن النظام العالمي لن يجد إلا في ملف: (المبادرة العربية للسلام) التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002م الوسيلة الراقية من أجل استعادة هيبة المنظمة العالمية وهي جزء من النظام العالمي الذي يرنو إلى تحقيق السلم والعدل والحق والخير لجميع شعوب الأرض، على أساس تنفيذ القرارات الدولية.
إن تنفيذ هذه المبادرة العربية للسلام تنفيذاً كاملاً هو وحده الذي يعطي لإسرائيل في الشرق الأوسط الحق في أن تكون دولة عضواً بالأمم المتحدة، وبما يضمن لها أن تعيش في سلام وأمن.
أما إذا استمرت إسرائيل وقادتها في استهانتها بالقرارات الدولية، وبالتالي ارتكابها المزيد من الجرائم ضد المدنيين العزل، وهذا ما سجله تاريخها.. فلن تكون سوى (مافيا Mafia) يجب شطب أو تعليق عضويتها من الأمم المتحدة إلى أن توافق إسرائيل على تنفيذ المبادرة العربية للسلام.
وإذا كان (بنيامين نيتانياهو) زعيم حزب الليكود الإسرائيلي يُعلن بين الحين والآخر في دعاياته الانتخابية أنه يرفض هذه المبادرة العربية بقوله إنه لا عودة لحدود عام 1967م مع بقية لاءاته التي يرددها.. فإن هناك يهوداً آخرين داخل إسرائيل وخارجها لهم رأي آخر..
إذ إن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي (آفي ديختر) يطالب في مقابلة إذاعية تناقلتها وكالات الأنباء في 2 فبراير 2009م بأن تكف إسرائيل عن تصرفاتها التي تظهرها للعالم كمنظمة إرهابية وليست كدولة.
إذاً ما البديل إذا لم تقم إسرائيل بتنفيذ هذه المبادرة العربية للسلام؟
هل البديل هو تقديم الغذاء والكساء والدواء للضحايا الأبرياء في كل اعتداء إجرامي تقوم به إسرائيل؟ فتكرار جرائمها وارد.
ولذا.. فإن الإعلام العربي والإسلامي.. مع اليقظة التي أصبح يتحلى بها الرأي العام.. مهمته تدعيم قوة الدبلوماسية حيث إن الأمة العربية في قمتها ببيروت عام 2002م قدمت الإنصاف التاريخي لكي تكون إسرائيل دولة وان تكف عن أن تتصرف كمنظمة إرهابية إذا قامت إسرائيل بتنفيذ هذه المبادرة العربية للسلام.
ولاشك في أن الدبلوماسية العربية وهي تؤدي دورها بهذا النشاط سيعزز من شأنها الإعلام النشط مهنياً وفنياً وخبرةً في تتبع الاشعاعات التي تعكس هذا الإنصاف التاريخي لهذه المبادرة في كل مكان: في الأمم المتحدة، وفي الولايات المتحدة في عهد أوباما، وفي الدول الأوروبية والإفريقية والآسيوية في كل مكان.. لكي ينير الجمعية العامة للأمم المتحدة لكي تكون جاهزة للتصويت على طرد إسرائيل إذا لم تكف عن كونها مافيا.. أو منظمة إرهابية وهو ما استشعره يهود وإسرائيليون داخل إسرائيل ذاتها..
***
وما يدعو إلى التفاؤل أن كتائب الدبلوماسية العربية مع النشاط الإعلامي بدآ مسيرتهما بقوة بعد أن استطاعت قمة الكويت يناير 2009م أن تعيد الصف العربي وقادته إلى التضامن بعد لحظة انقسام ولت سريعاً بالتفاؤل في المبادرة العربية للسلام كإنصاف تاريخي ليس له بديل غير اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم..