Al Jazirah NewsPaper Sunday  22/02/2009 G Issue 13296
الأحد 27 صفر 1430   العدد  13296

وداعاً والدي الحبيب
د. عبد المجيد محمد الجلال

 

في حياتنا القصيرة وإن طالت، معالمٌ ووقفات، وتأملٌ ونظرات، وآثارٌ وذكريات، وأفراحٌ وعَبَرات، تتراكم بتقادم الأيام والأشهر والأعوام، نستضيء بأنوارها في بناء حياتنا، وتربية أبنائنا، وإنجاز أعمالنا، وتقويم عثراتنا، والرفع من قدراتنا، وسقف أحلامنا.

نستمد من دفاترها الدروس والعبر، والموعظة والحِكم، والإخلاص وحُسن العمل، والوفاء وصدق الانتماء.

حين وافاه الأجل، وانتقل إلى جوار رّبه ورحمته، أخذت بي المشاعر وشرائط الذكريات، إلى ماضٍ جميل، وسنوات خلت، حين كان الوالد محمد بن عبد الله الجلاَّل رحمه الله، يشقّ طريقه في مساحة هذه الحياة، لبناء الأُسرة والذات، وخدمة الوطن، وقد تعددت المتطلبات، وتزاحمت الواجبات والمسؤوليات، واتسع نطاق العمل والمهمات.

في حاضرة نجد (شقراء) كان المولد والمنشأ، وحياة الطفولة. التحق رحمه الله بأحد الكتاتيب في سوق حليوة بشقراء، وكان لهذا النوع من المؤسسات التعليمية أثر كبير في تعليم القرآن، ونشره في القرى والمدن، وبين طبقات المجتمع المختلفة، وأسهم في تعليم الصبيان، وتحفيظهم للقرآن الكريم في البلاد والقرون الإسلامية كافة.

وتشاء إرادة الرحمن أن يفقد والده، وهو في مرحلة عمرية مبكرة، تشتدُّ فيها الحاجة إلى مظلته ورعايته، فكان أن تحمل مسؤولية الأُسرة ومتطلباتها.

وفي محطة مهمة من حياته، قرَّر رحمه الله الخروج من شقراء صوب مكة المكرمة، وكانت في ذلك الوقت مقصداً وحلماً للكثير من أبناء نجد لطلب العلم والرزق، في جوار أقدس البقاع وأطهرها.

في مكة المكرمة درس في أحد المعاهد ذات الصلة بالعلوم الشرعية، واللغة العربية، والخط العربي، فاجتهد، وكان من أبرز الخريجين وقتها، ومارس العمل في عدة جهات، إلى أن استقرَّ به المقام في أحد قطاعات وزارة الداخلية. وظلَّ يعمل فيه حتى مرحلة التقاعد.

لم يكن رحمه الله - كحال أكثر أقرانه في ذلك الوقت - يحمل المؤهلات والشهادات العلمية العالية، بقدر ما كان يختزن في صدره مقومات الإيمان والإرادة، التي هيأت له الطرق والممرات لأداء رسالته على أفضل وجهٍ ممكن.

في مجال خدمة الوطن، ظلَّ رحمه الله أكثر من أربعين عاماً يعمل في وظيفته العمومية بوزارة الداخلية، وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة نسبياً، عمِل مع الكثير من القيادات الإدارية، وفي مقدمتهم الأمير احمد بن عبد العزيز، وشارك في عمليات التطوير والتحديث التي صاحبت النهوض التنموي الكبير لهذه البلاد خلال فترات حكم الملوك: سعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله تعالى.

ومن أبرز محطات رحلة العمل هذه، أحداث الحرم المكيِّ عام 1400هـ حين اعتدت فئة ضالة على حرمته وقدسيته، واستباحت الدماء المعصومة، وأكثرت الهرج والمرج والقتل، إذ كان رحمه الله يستذكر هذا الحدث الأليم، وتداعياته، وكيف ظلَّ وكافة القيادات الإدارية في مكة المكرمة، في حالة استنفار كامل، ومرابطة على مدار الساعة، حتى تحقق النصر والتمكين، مصداقاً لقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.

وكان رحمه الله في أحاديثه مع أبنائه ومحبيه، يُشدّد على حق الوطن، وأهمية إخلاص العمل والنيِّة، والبعد عن مزالق الغلو والتُّطرف، وإفرازاته شديدة السلبية على تماسك المجتمع واستقراره، ووحدة أبنائه ونخبه وسائر أطيافه.

ورغم المشاغل الكثيرة، والمسؤوليات المتعددة، فقد كان رحمه الله يتحين الفرصة، ويقتنص اللحظة، لممارسة هوايته المفضلة، في القراءة، ومطالعة سَفر الأدب العربي، خاصة الأدب الجاهلي، وكان يحفظ الكثير من أشعار المُعّلقات، كما كان يهتم بمطالعة المصادر والمراجع التي تؤرخ لأحداث التاريخ المعاصرة، ومنها على سبيل المثال، أحداث الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) وقد اقتنى الكثير من المجلات والكتب التي تؤرخ لأحداث هذه الحرب التي أعادت توزيع قواعد النفوذ والسيطرة، على مستوى المنظومة العالمية، وكان يحتفظ بنسخٍ نادرة تحكي بعض فصول هذه الحرب ونتائجها الكارثية.

كانت مكتبته الصغيرة تشتاق إليه بعد أن أنهك السُّكري عينيه، واستعصت عليه القراءة، وظلَّ حتى قبل وفاته التي أدمت القلوب يردد مقاطع من بعض المُعلقات، إذ كانت ذاكرته رغم السِّنين والمرض حاضرة ومتَّقدة.

رحمك الله يا والدي الحبيب، رحمك الله يا أبا عبد الله رحمة الأبرار، وأسكنك فسيح الجنان، بصحبة النبيين والصديقين والشهداء، وحسُن أولئك رفيقاً، وألهم أبناءك ومحبيك جميل الصبر والسلوان، و{إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}.

تَأَمَّلْ في الوُجُودِ بِعَيْنِ فِكْرٍ

ترَ الدُّنْيا الدَّنِيَّةَ كالخَيَالِ

ومَنْ فيها جَمِيعاً سَوْفَ يَفْنى

ويّبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد