حينما أعلنت وزارة الداخلية العثور على كتاب إدارة التوحش لأبي بكر ناجي (وأظنه اسما مستعاراً) الصيف الماضي ضمن مجموعة من الوثائق في يد مجموعات حركية استوقفني العنوان المدهش والمتوحش، فأحببت الاطلاع على مضمونه وبخاصة أنه منتشر في أيدي الحركيين وكان ذلك وعلى الرغم من مضي هذه الفترة لم نجر رداً لعالم أو هيئة أو جهة على ما في هذا الكتاب...
من اختطاف لمصطلحات إسلامية ومغالطات عقدية وقواعد حركية أثارت الاهتمام العالمي ومنها وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) وترجم إلى لغات عدة، وهو منشور في مواقع حركية ليكون جزءاً من الحرب الالكترونية التي توجه اتباع التيار الحركي في مواجهاته سعيا إلى استقطاب مزيد من الشباب الجدد ليصلوا بالمجتمعات إلى حالة الفوضى والاضطراب، قال ناجي: (جر الشعوب إلى معركة بحيث يحدث بين الناس كل الناس استقطاب..) ليصلوا بالمجتمعات إلى التوحش ثم يديرونها على طريقتهم بعد نشر العنف والدماء والقتل والتدمير والوحشية في المجتمع المسلم قبل غيره تحت مبدأ (الدم الدم والهدم الهدم) كما جاء في الفصل الخامس من تحقيق الشوكة (ص 34) وهذا القول جواب رسول الله للأنصار حينما قالوا إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم) وهذا القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار في مقابلة الكفار واليهود وغير المسلمين ولكن الحركيين طبقوا هذا ونزلوه على المؤمنين كما فعل الخوارج إذ أخرج البخاري في صحيحه معلقا 6-9352 باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}، كان بن عمر رضي الله عنهما يراهم شرار خلق الله وقال إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين في صورة تسعى بالعالم إلى الفناء الحضاري من خلال الحرب على النفط والاقتصاد، قال ناجي: (إن الضعف الاقتصادي الناشئ عن تكاليف الحرب أو الناشئ عن توجيه ضربات النكاية مباشرة إلى الاقتصاد هو أهم عوالم الفناء الحضاري) وهذا أشار إليه بيان وزارة الداخلية الذي أكد أن تلك المجموعات المقبوض عليها كانت تخطط لاستهداف المنشآت النفطية في شرق الوطن فضلاً على انتشار القرصنة واختطاف السفن واستهدافها في اليمن والصومال والبحار والمحيطات، ولا شك أن تلك الصورة هي أبعد ما تكون عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة للبشرية جمعاء وصحابته والسلف الصالح، صورة شوهاء تكمل ما رسمته كتب الحركات الأصولية في فترة الستينات من نمط صعب ونمط مخيف ابتداء بمقدمة تعبوية تعتمد على لغة التصعيد مع الآخر والشحن النفسي للعاطفيين من فئة شباب الأمة ليكونوا وقوداً لحروب خاسرة، وهناك وقفات موضوعية تتلخص في نقد مضمون الكتاب كما يلي:
1 - ذكر ناجي في المقدمة (ص1) أن بعض الشباب اتبع المنهج الحركي (السلفية الجهادية كما يزعم) بسبب الحيرة التي أصابته من تعدد المشاريع لحل قضية حسمت حلها النصوص الشرعية في أعين النابهين على الأقل فقال: (من كل تيارات الحركة الإسلامية لم يضع مشاريع مكتوبة إلا خمسة تيارات فبعد إخراج تيار التبليغ والدعوة وتيار سلفية التصفية والتربية (السلفية الصوفية) وتيار سلفية ولاة الأمر وغيرهم سنجد أن التيارات التي وضعت مشاريع مكتوبة وتصلح للنقاش لما لها من واقع عملي، هي خمسة تيارات: وذكر منها: تيار السلفية الجهادية، وتيار سلفية الصحوة ولا بد من وقفات أمام هذا النص:
أ - الخلط الواضح في مفهوم السلفية، حتى ظنها ناجي ومن يحطب في حباله مصطحباً لجماعة حزبية تقابل التنظيمات السرية التي ذكرها وإنما هي في الحقيقة منهج حياة وعقيدة أهل السنة والجماعة وأهل الأثر والحديث والفرقة الناجية والطائفة المنصورة وأهل الاتباع، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة رقم (6149) (2-164).
س: أريد تفسيراً لكلمة السلف ومن هم السلفيون؟
ج- السلف هم أهل السنة والجماعة المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم إلى يوم القيامة، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي..) وجاء في الفتوى رقم (1361) (1-165):
س: ما هي السلفية وما رأيكم فيها؟
ج: السلفية نسبة إلى السلف والسلف هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى من أهل القرون الثلاثة الأولى -رضي الله عنهم- الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير في قوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم، والسلفيون جمع سلفي نسبة إلى السلف، وقد تقدم معناه وهم الذين ساروا على منهاج السلف من اتباع الكتاب والسنة والدعوة إليهما والعمل بهما فكانوا بذلك أهل السنة والجماعة، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم).
وهذا الخلط والتشويه افتراء يقصده بعضهم تحقيقاً لأهداف لا تخفى على كل ذي لب فقالوا إنها لم يمض عليها إلا عقود معدودة من الزمن، ويزعم بعضهم أن مؤسس هذه الدعوة هو شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - وكأنها لم تعرف قبله، كما جاء في كتاب الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص(273)، وما هو إلا داعية من دعاتها ومجدد من مجدديها، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - (فنحن والحمد لله متبعون غير مبتدعين، مقلدون للكتاب والسنة وصالح سلف الأمة على مذهب أهل السنة والجماعة الذي هو أمر الله ورسوله). (عقيدة الشيخ محمد عبدالوهاب السلفية للشيخ صالح العبود ص 220).
ويقول الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب (مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم بل والأعلم والأحكم خلافاً لما قال: طريق الخلف أعلم) (الدرر السنية 1-126).
فالسلفي من لزم الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح الذين رضي بالانتساب إليهم، وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ومن تبعهم من أئمة الدين والهدى، ولذلك لا يطلق هذا المصطلح على الخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم من التنظيمات والأحزاب في التكفير والخروج، وخير رد على ناجي قول شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى ج(4-149) في رده على قول العز بن عبدالسلام: (والآخر يتستر بمذهب السلف)، قال: (لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً، فإن كان موافقاً له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق، فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم)، وقال في الفتوى الحموية ص(34): (واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا).
ب - هذا المنهج الحركي المتمثل ب(تنظيم القاعدة) الذي يدعي السلفية ويدعي ناجي أنه حسم الحيرة في ذهن الشباب بسبب اعتماده على النصوص الشرعية كذب وافتراء على تلك النصوص وفهمها على غير واقعها وتنزيلها على غير أهلها وما هو إلا إعادة ترتيب للصفوف في حروب طويلة من خلال إدارة التوحش، ليحصلوا على الشرعية والتعاطف من العوام على إرهابهم وعنفهم وتكفيرهم وتسويق تلك الرؤى والأفكار العنيفة من البوابة الدينية، ومسمى السلفية الجهادية قرارا من الصورة السلبية المرسومة في أذهان الناس عن تنظيم القاعدة الذي يكفيه فساداً وتشويها أنه يحارب هذه الدولة السعودية بولاة أمرها وعلمائها ومؤسساتها وهي دولة سلفية ودعوتها سلفية كما نص على ذلك مؤسس دورها الثالث - على أساسها الأصل - قال المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - في الخطاب الذي ألقاه في منى خلال موسم الحج للعام 1365ه وذلك في اليوم العاشر من ذي الحجة: إنني رجل سلفي، وعقيدتي هي السلفية التي أمشي بمقتضاها على الكتاب والسنة وقال في الخطاب نفسه: (يقولون إننا وهابية) والحقيقة أننا سلفيون محافظون على ديننا, ونتبع كتاب الله وسنة رسوله، ولقد صدق القائل: فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب) (المصحف والسيف ص 135 - 136).
وقال في خطاب أرسله إلى أبي يسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي: (وهذه هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين وبيان ما نحن ومشايخنا عليه من الطريقة المحمدية والعقيدة السلفية ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، لأقوم منهج وطريق، والسلام. (الدرر السنية 1-303-305).
وقال: (أنا داعية لعقيدة السلف الصالح. وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها، فأرجع بشأنه إلى أقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح للمسلمين). وقال - رحمه الله - في خطبة له بمكة (يسموننا بالوهابيين، ويسمون مذهبنا بالوهابي باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش، نشأ عن الدعاية الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض. نحن لسنا أصحاب مذهب جديد، أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبدالوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح... نحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق بين الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، كلهم محترمون في نظرنا) (الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز للزركلي ص 214)، وقال عند الشيخ أحمد شاكر في مقدمة عمدة التفسير (1-7) (إمام أهل السنة، ومحيي مذهب السلف، وباعث النهضة الإسلامية..).
ج3 - تيار سلفية ولاة الأمر الذي نص عليه ناجي لم يعرف في الواقع المعاصر، والإضافة ليست سبة ونقصاً بل إضافة تشريف واعتقاد ولعله يقصد به من يرى شرعية ولي الأمر، وهذا لا يسمى تياراً أو حزباً بل هو منهج وعقيدة إذ يجب على كل مسلم وبخاصة في هذه البلاد التي تحكم بشرع الله طاعة ولي الأمر في غير معصية الخالق، ولا يرى السلفي عصمتهم بل يقدم لهم النصح والإرشاد سراً حفاظاً على هيبة الدولة وولي أمرها من الغوغاء والدهماء والسفهاء تمسكاً بالنصوص الشرعية التي تؤكد ذلك ومن أهمها: نقل ابن حجر رحمه الله الإجماع على عدم جواز الخروج على السلطان الظالم: فقال قال ابن بطال (وفي الحديث حجة على ترك الخروج على السلطان ولو جار وقد اجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء) فتح الباري 13-7، ونقل الإمام النووي -رحمه الله- الإجماع على ذلك فقال في (وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق...) شرح النووي 12-229.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصا الله ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن يعص أميري فقد عصاني) رواه مسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك) رواه مسلم (1836). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -: (فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمور لله فأجره على الله ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً سلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفا وإن لم يعطه منها لم يف) الفتاوى (35-16-17) وقال أبو جعفر الطحاوي (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة). وقال الشيخ أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم وأتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم)، وقال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به) وقال ابن قدامة (ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمين أمراء المؤمنين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله)، وقد استدلوا بأدلة كثيرة ليس هذا المقام سردها، والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com