يتألف كل مجتمع بشري من أفراد يجمع بينهم جملة من القواسم المشتركة التي يتوافقون عليها، يرتضونها طائعين مختارين، ويتقبلونها بكل رحابة صدر ورضا، تسير حياتهم، وتضبط حركتهم وعلاقاتهم، ومن هذه القواسم تتشكل الهوية، والشخصية الاعتبارية المميزة شكلاً ومضموناً لهذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، والسمات التي يتميز بها مجموعة الأفراد عن غيرهم، والحس الوطني والانتماء، والثقافة السائدة التي تبدو بين الأفراد في أفعالهم وأقوالهم.
وكل الأمم تحرص على تكوين أبنائها تكويناً متيناً صارماً صامداً يستمد قوته ودافعيته من الثوابت والمسلمات التي تؤمن بها الأمة، ويتوافق مع غاياتها وثوابتها التي تسير شئون حياتها، تنشئ أجيالها وفق شخصيتها الاعتبارية المميزة لهم، ليبقوا على موروثها الذي آمنت به، وتعتز بالانتساب إليه، فهي أمة حية حيوية متجددة، لا تقبل الذوبان والانصهار في غيرها، مهما كان بريق الأمم الأخرى وجاذبيتها، لذا تجدها دائماً تتكيف مع المتغيرات بكل مرونة، لكنها تستعصي على التبعية والانقياد.
وتأكيداً على هذه المسلمة يذكر الدكتور علي فقير أنه (كان من عادة القريشيين إرسال أولادهم إلى الصحراء خارج مكة المكرمة يتوخون من ذلك إيجاد البيئة الأفضل للنطق وتفهم اللغة العربية السليمة) هذا عطفاً على التحلي بالسمات العربية وشمائلها الأصيلة، ومن الأمثلة الحية الحديثة ما قامت به والدة (أوباما) انطلاقاً من أدركها لهذه المسلمة، فعندما كان (أوباما) معها في إندونيسيا وهو في حوالي السنة الرابعة من عمره، لم ترض أن يعيش خارج إطار البيئة الجغرافية والثقافية التي ترى أنها المحضن التربوي الصحيح لتكوين هويته وتشكيلها وفق المعايير والقيم التي تتوافق مع الثوابت الوطنية التي تؤمن بها، ولهذا أعادته إلى أمريكا ليعيش مع والدتها، يتنشأ ويتربى في البيئة التي تصنع هويته وشخصيته وفق أدبياتها ومعاييرها القيمية والأخلاقية.
وليس بخاف أن من أولويات رسائل المدارس العالمية، تكوين الطلاب الدارسين فيها وفق المفاهيم والمعايير القيمية والأخلاقية للبلدان التي تتبنى المدرسة التعليم بلغتها، ولهذا نافحت وزارة التربية والتعليم عند التشريع لهذه المدارس بأن يقتصر القبول فيها على الراغبين من الطلاب غير السعوديين فقط، أي أنه يمنع قبول الطلاب السعوديين فيها إلا بشروط ضيقة، وبموافقة الوزير نفسه، والوزارة محقة وموفقة بهذا الإجراء والتضييق، لأنها تدرك مخاطر التعليم والتعلم بغير اللغة الأم، فضلاً عما تحتويه المقررات من إيحاءات مباشرة وغير مباشرة من القيم والمفاهيم التي تختلف عما يجب أن يتعلمه الطالب السعودي وفق المنهج المعتمد في المقررات الدراسية في مدارس التعليم في المملكة العربية السعودية.
وليس بخاف أن قلة قليلة من أولياء أمور بعض الطلاب السعوديين يرغبون في إلحاق أبنائهم في الدراسة في المدارس العالمية، لاعتبارات مختلفة يمكن تفهمها وفق الضوابط المعتمدة، لكن أن يفتح الباب على مصراعيه فهذا أمر خطير، ومكمن الخطورة يتمثل في أنه سوف يفضي إلى مخرجات مشوهة من الطلاب بسبب انقطاع صلتهم بلغتهم وثقافتهم وبالتالي انتماؤهم لمجتمعهم.
إن فتح هذا الباب يعد اختراقاً واسعاً للتكوين والهوية، وهو مدخل خطير لتذويب الثقافة العربية، ومسخ لشخصية الطالب السعودي التي يعد تكوينها وبلورتها وفق الهوية السعودية العربية المسلمة من أولويات غايات التعليم وأهدافه الرئيسة.
Ab_moa@yahoo.com