إن من الدروس المستفادة لتقلبات إيرادات البترول جعلت المملكة تعمل على تغيير استراتيجيتها الاقتصادية، حيث اتخذت الإجراءات التصحيحية اللازمة لتوجيه اقتصادها بعيداً عن الاعتماد على إيرادات القطاع البترولي لكي يكون التركيز الأكبر على الاستثمار، أملاً في أن تصبح المملكة مركزاً للقوة الاقتصادية في المنطقة.
ولهذا قررت الحكومة أن تقوم بالاستثمار في مشروعات البنية التحتية التنموية الرئيسية من أجل زيادة ثقة المستثمرين والتشجيع على استثمار القطاع الخاص وتحقيق تنوع اقتصادي، وضمان ثبات المكانة التي تتبوؤها المملكة بوصفها من أكبر الدول التي تتلقى استثمارات أجنبية مباشرة، وتشمل هذه المشروعات مشروعات للنقل، والتي تتضمن إنشاء طرق بين مدن المملكة، وتطوير الموانئ والسكك الحديدية، مثل طريق السكة الحديد الذي سوف يربط بين الرياض ومكة والمدينة المنورة بتكلفة تصل إلى حوالي 6 مليارات دولار أمريكي.
ومن أهم هذه المشروعات إقامة ست مدن اقتصادية بالمملكة التي حسب تقديرات الهيئة العامة للاستثمار السعودي ستسهم بما يقارب من 150 مليار دولار أمريكي في إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2220م واستيعاب 4.8 ملايين من إجمالي عدد القوة العاملة في المملكة. هذه المشروعات الجبارة ستؤدي إلى نمو متزايد في الطلب المستقبلي على الأسمنت، وهذا ما جعل الكثير من الشركات يحرص في الدخول بصناعة الأسمنت.
إن صناعة الأسمنت وما تتمتع به الشركات السعودية المنتجة للأسمنت بمزايا اقتصادية متعددة، مثل رخص أسعار مواد الاحتراق أو الطاقة اللازمة للإنتاج، ووجود طلب جيد على منتجاتها يجعلها مرشحة جيدة للنمو في الإنتاج والتصدير وأن تكون إحدى الوسائل لتنويع مصادر الدخل.
ولقد كان لقرار منع تصدير الأسمنت الذي أصدرته وزارة التجارة بالمملكة في أوائل يونيو 2008م تأثير سلبي على معدلات نمو مبيعات صناعة الأسمنت في الوقت الحاضر وفي المستقبل على أن التأثير سوف يكون في نطاق واسع وبدرجات عالية لمنتجي الأسمنت في ظل الأزمة المالية العالمية. ويجب أن تكون النظرة إلى مصلحة الاقتصاد الكلي بالدرجة الأولى وليس لمصلحة شركات الأسمنت بشكل خاص. ويمكن تلخيص الآثار السلبية لمنع التصدير بالنقاط التالية:
1- إن حظر التصدير مع أن الطلب المحلي أقل من الإنتاج المحلي يعني تراكم المخزون، والدليل على ذلك وصول مخزون الشركات حالياً فوق التسعة ملايين طن. وهو يتزايد بصورة متسارعة منذ وقف التصدير، ومن المتوقع ارتفاع الطاقة الإنتاجية من الأسمنت في المملكة من 31 مليون طن إلى 50 مليون طن في نهاية عام 2009م، وهذا يصب في زيادة المخزون في ظل استمرار منع التصدير.
2- إن إيقاف التصدير يعني توقف بعض خطوط الإنتاج لا سيما إذا طالت فترة منع التصدير. وهذا له أثر سلبي على صناعة الأسمنت خصوصا على وجود الطاقة الفائضة Excess Capacity وما يترتب على ذلك من ارتفاع في متوسط التكاليف.
3- افتقاد شركات الأسمنت لحصتها التسويقية قي دول مجلس التعاون الخليجي لاسيما بعد ما حلت محلها شركات من الهند والباكستان، وهذا يصعّب من مهمة العودة إلى السوق الخارجي.
4- إن حظر التصدير على شركات الأسمنت يتعارض مع أولويات منطقة التجارة الحرة لدول مجلس التعاون الخليجي، والتي من بديهياتها إزالة جميع العوائق التي تحد من انسياب السلع والخدمات بل أيضا وحرية انتقال جميع عناصر الإنتاج. يجب التركيز عند تخطيط الإنتاج على تغطية طلب دول مجلس التعاون الخليجي ككل وليس فقط السوق المحلي.
5- إن حظر التصدير يتعارض مع سياسة الدولة الاقتصادية في تنويع مصادر الدخل، وذلك لان منع التصدير سيقلل من إنتاج شركات الأسمنت وبالتالي سيقلل من نسبة مشاركتها في الإنتاج المحلي الإجمالي. إن صادرات الأسمنت التي بلغت 3.5 ملايين طن في عام 2007م تمثل 12% من إجمالي مبيعات الأسمنت في نفس العام، وكان متوقعا أن تزيد هذه النسبة قبل إيقاف التصدير. ولكن ماذا سيحدث في نهاية عام 2009م حيث الطاقة الإنتاجية تصل إلى 50 مليون طن؟
6- إن وجود مثل هذه الأزمة المالية العالمية وما تسببت به من ركود اقتصادي وما تبعه من انخفاض الطلب العالمي مما أدى إلى توقف أو تباطؤ بعض المشاريع، سواء الفردية أو التي تنفذها شركات المقاولات الكبرى، وذلك بسبب ضعف التمويل البنكي والانتظار إلى حين وضوح الرؤية فيما يخص الأزمة المالية العالمية. ونتيجة لذلك فقد أثيرت الشكوك حول مدى قدرة المملكة على استيعاب الزيادة المرتقبة للطاقة الإنتاجية للأسمنت وبالتالي حماية قطاع صناعة الأسمنت من التشبع فيما يتعلق بالربحية.
7- إذا كان الإنتاج المحلي في الوقت الراهن يفوق الاستهلاك المحلي، ماذا عن الإنتاج في المستقبل، خصوصا مع وجود 10 شركات أسمنت جديدة؟ هل أعطيت ترخيص لأجل الإنتاج المحلي أم لأجل التصدير؟!.
8- إن منع التصدير وتزايد الإنتاج المحلي من الأسمنت سيؤدي إلى حرب أسعار وإلى منافسة شرسة بين شركات الأسمنت في الوقت الراهن وخاصة الواقعة في مناطق بعيدة ولديها فوائض كبيرة. وقد أدى ذلك فعلاً إلى انخفاض سعر الأسمنت ووصول سعر كيس الأسمنت إلى 8 ريالات، وذلك لأن حجم الطلب في مناطق المصانع الجديدة لا يستوعب سوى نصف إنتاج المصانع فيضطرون إلى البيع في الأسواق البعيدة.
إن الحاجة ملحة لمراجعة قرار منع التصدير وأن يكون التخطيط دائماً لمصلحة الاقتصاد الوطني، ولتلبية طلب دول مجلس التعاون الخليجي كإقليم واحد، لاسيما مع تزايد الطاقة الإنتاجية المحلية، وتزايد عدد شركات الأسمنت، والذي يزيد من درجة المنافسة بين الشركات والابتعاد عن الاحتكار، وبالتالي إمكانية الحصول على سعر عادل للأسمنت.
كلية الاقتصاد و العلوم الإدارية - جامعة الإمام
saud2@w.cn