في أول ظهور إعلامي بُعيد تعيينه محافظاً لمؤسسة النقد، أكد الدكتور محمد الجاسر في حوار له مع قناة (العربية) على أن (سوق السندات من الإمكانات التي لم تتطور إلى الآن بالاقتصاد السعودي وهناك إمكانية إقراض مشاريع كبيرة عن طريق إصدار الصكوك والسندات).
أذكر أنني تناولت هذا الموضوع على صفحات (الجزيرة) في ديسمبر 2005.. وأشرت إلى أن: (البورصة السعودية يفترض أن تفتح أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة في سوق الأسهم وفي أسواق التمويل عن طريق إصدار السندات... تعميم سوق السندات وتفعيلها لتكون موازية لسوق الأسهم تمثل أحد المطالب المهمة لتفعيل السوق... الشركات السعودية الضخمة بدأت في إصدار السندات وهي قطعاً تحتاج إلى سوق قوية تستوعب تلك السندات الضخمة)، وتفاءلت بسرعة تطوير سوق المال، وافتتاح سوق السندات حين كتبت (وربما تشهد الأيام القادمة افتتاح سوق السندات المعطلة، بحيث يتم إدراج السندات في السوق المالية كما هو الحال في الأسواق العالمية) إلا أن التفاؤل تحوَّل إلى إحباط بعد أن سارعت سوق دبي المالية إلى افتتاح سوق الصكوك الإسلامية، فكتبت موضوعاً آخر في مارس 2007 تحت عنوان: (مؤشر الإبداع في سوق المال) تناولت فيه تأخرنا في اتخاذ قرارات التطوير، وأن إبداع سوق المال السعودية يمكن أن يُصنف ضمن مؤشرات الإبداع السلبية.. سوق الصكوك الإسلامية، والسندات كانت ضمن مواضيع المقارنة بين سرعة اتخاذ قرار التطوير في الأسواق المجاورة، وبطئه في السوق المحلية.
إصدار الصكوك والسندات هو الأداة الأمثل لتوفير التمويل وهو أمر متفق عليه، ومطبق في الأسواق العالمية منذ زمن طويل، بل إن السوق السعودية كانت مسرحاً لمسوقي السندات العالمية منذ تسعينيات القرن الماضي.. تنازلت السوق السعودية بأريحية عن ثرواتها ومدخراتها لمصلحة الاقتصاديات الغربية، فتسربت الأموال لدعم قطاعات الإنتاج العالمية على هيئة سندات تم تسويق معظمها عبر المصارف السعودية.. قبلت السلطات النقدية بمرور تلك الأموال الضخمة بعد أن عجزت عن توفير الأوعية الاستثمارية الداخلية، والسوق المالية المنظمة لتداولها محلياً.. كان من الممكن استغلال السيولة الضخمة في السوق السعودية لخلق قطاعات إنتاج جديدة، وتمويل الشركات القائمة، ودعم الأفكار الخلاَّقة.. توجيه السيولة مباشرة للسوق الأولية لتمويل قطاعات الإنتاج كان كفيلاً بالحد من ارتفاعات سوق الأسهم في العامين 2005، و2006. هذه الفكرة تمت مناقشتها تفصيلاً في مقالات متعددة قبيل تضخم مؤشر الأسعار.
يبدو أننا اكتشفنا أهمية سوق السندات متأخرين مقارنة بالأسواق العالمية، وربما بعد أن تبخرت جل ثرواتنا الوطنية جراء الأزمة العالمية.. في ثمانينيات القرن الماضي كانت السندات المصدر الرئيس لتمويل ميزانية الدولة، حيث استغنت الحكومة عن التمويل الخارجي بالسندات المحلية وساعدها ذلك كثيراً في مواجهة النفقات، والبُعد عن الإحراجات الدولية فيما يتعلق بالديون الخارجية، وجدولة الدفعات.. كان من المفترض أن تطور تلك التجربة، بعد أن استغنت الدولة عن التمويل الداخلي، بتحويلها إلى قطاعات الإنتاج.. توقفت تجربة إصدار الصكوك والسندات إلا من بعض المحاولات الخجولة.. نجحت شركة سابك في إصدار صكوك إسلامية لتمويل مشروعاتها التوسعية بعيداً عن تمويل المصارف الغربية.. نجاح سابك لم يحرك سوق الصكوك والسندات ولم يفعلها كما يجب.. تحمَّلت الشركات التي لا تستطيع توفير التمويل المناسب عبر المصارف سلبيات اختفاء سوق السندات.. لم تفتقد قطاعات الإنتاج الكفؤة، والجهات التنظيمية، من ذاك، سوق الصكوك والسندات، فالسيولة كانت متوفرة، وتمويل المصارف لم ينقطع.. ولم يتعرف كثير من المستثمرين على سوق الصكوك والسندات ما دفعهم نحو فوهة بركان سوق الأسهم الملتهبة، دون أن تكون لديهم خيارات استثمارية تحقق لهم توازن محافظهم من خلال توزيع المخاطر.. بل إن خيار شركات الإنتاج التمويلي كان منصباً على زيادة رأس المال، مستبعدين نهائياً فكرة إصدار سندات وطرحها للمستثمرين.
اليوم، أصبحت سوق الصكوك الخيار الأمثل للتمويل بعد أن توقفت المصارف العالمية عن تقديم القروض الضخمة، وأصبحت المصارف السعودية تعاني من زيادة طلبات التمويل المحلية.. البنوك السعودية ساهمت أحياناً في تقديم تمويل متوسط، وطويل الأجل للشركات بصفتها المستقلة، أو بالتعاضد فيما بينها، أو مشاركة مع بنوك عالمية، وهي قادرة على مواجهة النمو السريع في الطلب على الائتمان متى ما وجدت الدعم الكافي من الجهات الرسمية.. الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى إصدار كميات هائلة من سندات الدين لتمويل جهودها الرامية لتحفيز اقتصادها.. الوضع الداخلي بات أكثر حاجة لإصدار سندات الدين لتمويل قطاعات الإنتاج.. المعادلة باتت مقلوبة.. الدولة -حفظها الله- تتمتع بملاءة وفوائض مالية عالية في الوقت الذي تحتاج فيه الشركات السعودية إلى التمويل العاجل.. القطاع المصرفي يحتاج أيضاً إلى بعض ودائع مؤسسة النقد الخارجية لمواجهة الطلب المتنامي على الائتمان.. الفوائض المالية يفترض أن توجه للتخفيف من آثار الأزمة العالمية على قطاعات الإنتاج. الاستثمار في الداخل أجدى وأضمن من الاستثمارات الخارجية. تنفيذ خطط توسع قطاعات الإنتاج في الفترة الحالية، وخلق قطاعات إنتاج إستراتيجية جديدة ربما يكون من الخيارات الجيدة في الوقت الحالي.
إصدار الصكوك في حاجة إلى سوق رسمية تسهل عمليات الإصدار، الإدراج، والتداول.. كل ما نتمناه أن تُفعَّل الأفكار ذات العلاقة بسوق الصكوك الإسلامية، وأن يشرع في إنشائها لتكون سوقاً مستقلة تدرج فيها الصكوك ويتم تداولها بين المستثمرين، ولتكون مصدراً رئيساً من مصادر التمويل في السوق السعودية.
*f.albuainain@hotmail.com