Al Jazirah NewsPaper Saturday  21/02/2009 G Issue 13295
السبت 26 صفر 1430   العدد  13295
من الأدبي إلى الثقافي.. ومن الحداثة إلى ما بعدها
بعد ربع قرن من (الخطيئة والتكفير).. الغذامي يؤصل (هويات ما بعد الحداثة)

 

«الجزيرة» - عبدالمحسن الحقيل

صدر كتابه الأول (الخطيئة والتكفير) عام 1985م فأثار ما أثار، وجدد ما جدد، فأقام الدنيا ولم يقعدها حتى اليوم، تكررت طبعاته ومعها وبعدها كتب جديدة للدكتور عبدالله الغذامي تكشف عن عميق ثقافته وأفق تقدمه على الواقع الثقافي المعاش.. وهنا نقرأ (القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة) كتاباً جديداً للدكتور عبد الله الغذامي يواصل السير به مع مشروعه الثقافي.

وكتابه (النقد الثقافي) الذي تحدث فيه عن حيل النسق موظف في جزء من كتاب (القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة).

الكتاب يفرق بين القبلية والقبائلية كما يفرق بين الطائفة والطائفية والمذهب والمذهبية.

ويجيب عن عدد من الأسئلة مثل: كيف يعود الناس للقبائلية في زمن العلم وزمن الصحوة الدينية وزمن الحريات العقلانية؟

كيف يعودون للطائفية والعنصرية الثقافية؟

ويستدعي الكتاب آيات من القرآن الكريم وأحاديث شريفة وأبياتا شعرية ومقولات علمية.

يبدأ الغذامي كتابه بالشكر لكل من مد له يد عون ومساعدة، ويخص الدكاترة: خالد الرديعان - صالح معيض الغامدي - إبراهيم التركي، ولا ينسى قراء مقالاته في جريدة الرياض وتعليقاتهم التي كانت ذات تأسيس ذهني كما يقول على مدى كتابته.

يبين الغذامي أن هناك صورتين ثقافيتين متضاربتين رغم وجودهما معا في مشهدنا المعاصر، وهما:

1- البروز القوي للعرقية والطائفية والمذهبية ومثلها القبائلية.

2- أننا في زمن العقلانية والانفتاح الكوني وهو زمن يتراوح بين الحداثة وما بعد الحداثة.

وكون الصورتين تقعان في مجتمع واحد كما في أوروبا، فهذا يدفع الباحثين الإنتروبولجيين إلى أن يعدوا العودة للهويات الكبرى والصغرى مظهرا من مظاهر الحداثة.

إذن فهي ساحة صراع الإنسان حيث يظهر نسق ويحل محل الصدارة ليعود فيتوارى ليحل نسق آخر محله ومعه التراوح بين الانفتاح والمحافظة كما في أمريكا ليثور السؤال: لماذا؟ ما الذي حدث؟ ويلخص الغذامي ما حدث في أربعة أسباب هي:

1- الخوف الأسطوري، ذلك الذي صفته الصورة الإعلامية ليكشف الخراب والموت والحروب وانهيار البيئة ونضوب الماء؛ الأمر الذي حدا بالثقافة البشرية إلى اللجوء للتحيز الفئوي والوهم الأسطوري لتحصين الذات.

2- سقوط الطبقة الوسطى التي كانت تمثل الصيغة الثقافية الكلية التي عمت البشرية بالتحرر والتعليم والوعود الاقتصادية والسياسية التي كان انكسارها انكسارا للطبقة الوسطى فضاع الإحساس بالتفاؤل في الحياة وأمسى المستقبل مظلما غير واعد، خصوصا مع اقتصاد العولمة والسوق الحرة لتضيع بعض القيم الإنسانية كالرحمة والشفقة فاكتسبت العولمة والسوق الحرة صورة الغول الطاغي المعمي عن القيم الرمزية للأمم.

3- انهيار المشروع الكوني في التعليم وتلاشي الوعد الكبير بكونه المنقذ من الأمراض الثقافية.

4- نسقية الثقافات من حيث الأصل؛ فالنسق في حالة تربص واستعداد دائم للانقضاض ليحوّل الجميل إلى قبح نسقي.

من خلال هذا التقديم الثري يظهر السؤال: ما هي القبلية؟ وما القبائلية؟

ويجيب الغذامي باستدعاء الشعب والشعوبية والعنصر والعنصرية والطائفة والطائفية والعرق والعرقية ليظهر الفرق بين ما هو حق ثقافي واجتماعي وما هو نسقي وعنصري. فالهوية التي تعتمد (نحن/ هم) تقوم على إقصاء الآخر، ومن هنا فالقبلية (قيمة ثقافية واجتماعية مثلها مثل العائلة والمذهب والشعب) والقبائلية كالشعوبية فهي عنصرية ونسقية، فالقبائلية إذن عرقية تدخل في الهويات الأصولية لتتجاور مع معنى (ما بعد الحداثة).

العولمة أفرزت عودة الأصوليات حيث الهوامش تعبر عن ذاتها، وهذا حق لكن انفتاحها خلط المفاهيم فصارت الرجعية مجاورة للحداثة الفائقة، وظهر محافظون سيروا العولمة وفق مشروع في الهيمنة وظهرت الطائفيات لكنها بدل أن تكون صيغة للذات صارت صيغة للتفريق، وهذا يكشف تلاعب النسق في إفساد الجميل وتحويله إلى قبيح.

الكتاب يمثل بحثا في الهويات الجذرية وهي متداخلة، فالحديث عن واحدة هو حديث عن الأخرى، فالحديث عن القبائلية مثال حقيقي على سائر الهويات سواء الطائفية والشعوبية والعرقية والعنصرية، وهي تمثل خصائص لمرحلة ما بعد الحداثة التي نعيشها اليوم.

تحدث الغذامي بإسهاب عن (هويات ما بعد الحداثة) والمنظومة النسقية التي تحرص على صناعة الأنا في مقابل الآخر لتلغي الأصل في الشأن الثقافي من خلال مساواته في الحقيقة والفطرية والطبيعية.

والنسب يرتبط عضويا مع الحسب، ومنهما تتولد الرغبة في المجد والسلطة من نزعة التنافس التي هي غريزة بشرية سايرت الإنسان بالعدوانية في الحياة البدائية، ثم ابتكر الإنسان لها وجوها كالرياضة ليتكون صراع فطري يبحث عن ثلاثية: السلطة - المجد - التنافس، ويأتي النسب بوصفه مخترعا ثقافيا يشكل حزمة نسقية. فهناك من يملك قصة تاريخية يستعيدها ويستدعيها، وهناك من لا يملك تلك القصة، وهنا تأتي الحكاية أصلا، يتفرع منه معنى أسطوري وآخر رمزي، والقبائلية من تلك الرمزيات التي وقف عليها الغذامي.

يضع الغذامي القبائلية في سلمها الدلالي الجامع لخصائصها؛ فقد كان الإنسان البدائي ضعيفا يحمل التعاون مع العدوانية، ثم انتمى للعائلة فالقبيلة. والحروب كانت للتصفية فتحولت للاستلاب وجلب العبيد فنشأت طبقتان:

1- أصلية في القبيلة وهي الحرة السيدة.

2- مستعبدة تكدح لا عن إخلاص وإنما بالإكراه.

وظهرت (العقيدة) فاستدعت ولاء لها ونظاما سياسيا يحكم بناء على المعتقد، وقويت الهوية الدينية وانقسمت العلاقات ومازالت تنقسم حسب المصالح إلى:

1- الأصدقاء.

2- الأصدقاء الأعداء.

3- الأعداء.

فكل ما هو فطري يستدعي القبيلة، وكل ما هو نسقي يستدعي القبائلية.

ولما كانت الحداثة مشروعا يطمح إلى إزالة الفروق العرقية فإن مرحلة ما بعد الحداثة تفجر الهوامش وتكشف عجز الوعد العقلاني في تحقيق الحرية والمساواة، فبقيت اللون والمعتقد واللغة قيما أساسية غير قابلة للتعديل، وفي هذا الجو جاءت الهويات، وهو معنى ثقافي جديد مصطلحا وجديد معنى يشكّل سمة من سمات ما بعد الحداثة لتكون مصدرا للانتماء ينساق خلفه الناس بحس قهري محسوم. والهوية تستدعي العرقية، وهي رديف للقبائلية تحوّل ما هو إنساني فطري إلى عنصري.

في فصل آخر يتحدث الغذامي عن الإسلام والقبيلة، فالإسلام دين ومعنى، والقبيلة قيمة ثقافية واجتماعية؛ فهي أيضا معنى، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} خطاب لكل البشر مع تحديد المواقع (شعوب - قبائل). وصفات الشعوب طبيعية والشروط محروسة بمفهوم الأكرم ثم الهدف سمة طبيعية هي التعارف والتقوى. والجملة هنا مفصلة في سورة الحجرات نفسها، لكن في موضع آخر.

عندما تتسع الدائرة يصبح الشعب قبيلة كبيرة ويستدعي قانون (الأفعل هو الأفعل) ببعديه الاجتماعي الوجداني والعقلي العملي، والآية السابقة تحدد علة الخلق بالتعارف ثم قانون الأفعل هو الأفعل.

يستخلص الغذامي بعد استعراض نصوص قرآنية وأحاديث شريفة وأبيات شعرية أن الدين نظام أخلاقي قيمي يرسم الطريق للسلوك المعتدل، والقبيلة نظام ثقافي واجتماعي طبيعي، وجانبه الطبيعي يمنح القيم الراقية كالكرم، أما القبائلية فنسق يعتمد ثنائية (نحن/ هم)، وهو إقصائي.

يستمر الكتاب مع النسق ويتحدث عن المدينة والهويات، والمدينة لها ثلاث صيغ:

1- المدينة المقدسة.

2- المدينة القبيلة.

3- المدينة المختلطة.

فمكة المكرمة والمدينة المنورة تمثلان المدينة المقدسة؛ حيث خاصية القداسة وتكرار الزيارة لها.

والمدينة القبيلة تظهر في الجنوب؛ حيث انقسمت القبائل الجنوبية إلى قبائل مستقرة وقبائل بدوية.

والشكل الثالث (المدينة المختلطة) يقوم على خليط بشري تحوّل إلى حياة الاستقرار، تتقلب بين الفردية والجماعية.

وقصة التطور والتميز حيث يولد الناس سواسية ثم تظهر فروق بينهم حسب الدوافع التي تحرك القدرات الداخلية ليكتسب المرء صفات جديدة مكتسبة لا متوارثة، لكن الأحفاد يحتالون ليكتسبوا المجد، والنسق الثقافي يمدهم دوما بالبديل.

الكتاب في مئتين وتسع وستين صفحة، وقد صدرت نسخه الأولى، ويتوقع أن يُعرض للجمهور في معرض الرياض الدولي للكتاب بعد عشرة أيام، وسيكون متاحاً في جناح المركز الثقافي العربي.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد