يأتي التغيير دائماً عندما يعتقد البعض أنه ربما لن يحدث، فالاستمرار بدون فترة محددة في المراكز الإدارية يؤدي إلى حالة من التبلد والكسل الذهني، وإلى نشوء علاقة اندماج بين الشخص والكرسي، لتبدأ بعد ذلك مرحلة التسلط وتسيير الأمر حسب الأهواء إن صح التعبير، التي تظهر عادة بعد أن يثبت أقدامه من خلال توسيع دائرة اتصالاته وعلاقته، التي تدخل من خلالها التفكير في المصالح الشخصية، واختصار المسافات في الانتقال من حال إلى حال.
هذا هو بيت القصيد في الواقع العربي، الذي لم يستطع الخروج من عقدة الديمومة، وإن إمكانية الخلود والدوام حلم قد يتحقق في عالمهم من دون العوالم الأخرى، على الرغم من أن السومري جلجامش أدرك ولو متأخراً حقيقة أنه لن يكون خالداً، وسيفقد يوماً ما منزلته الرفيعة في قومه.. كانت رحلته في البحث عن الخلود طويلة، فقد كان يشعر بالخوف الدائم من ثلثه الإنساني المزعوم، وكان قد أيقن من قبل أن تسخير الناس لطاعته لن يحقق له رغبة البقاء للأبد، وأنه بالتأكيد زائل إذا لم يجد حلاً سحرياً لحتمية فناء الجزء الإنساني في داخله، لكنه أدرك، وبعد سلسلة متوالية من الأحداث الرمزية، أنه لا محالة زائل، وأن لا طريق للخلود إلا بتحقيق الأعمال الخالدة والمؤثرة في حياة الناس.
هذه قصة رمزية تحكي الواقع الإنساني، وتعطي المسؤول العربي درساً من التاريخ الرمزي أن الخلود ليس سمة إنسانية إلا بالأعمال الصالحة التي تدوم منافعها، لكن على الرغم من ذلك ما زال البعض في واقعنا يعيش في الأحلام العربية أكثر من الواقع، التي هي مجموعة من الأوهام الوردية، تزين لذلك المسؤول أنه سيدوم في منصبه، وأن السلطة فقط ستجعل الناس يأتون رغماً عنهم إلى مكتبه للتسول من أجل منافعهم المشروعة، حلم أشبه بالكابوس المرعب الذي يمزق حلم العربي البسيط ثم يحوله إلى كابوس لا ينتهي إلا بخروج ذلك الحالم المتسلط إلى عالم النسيان.. عندها سيخرج مثقلاً بالذكريات السيئة عند الناس، وبالفساد واحتكار المنافع أو التسلط ضد أولئك الذين لا يشعرون بالاطمئنان إلى وجودهم.
ويذكر الناس دوماً تلك الفئة التي هزمت ذواتهم ونزواتهم البدائية بالثناء والشكر والذكريات العطرة التي تظل أجواؤها تنتقل من مرحلة زمنية إلى أخرى.. ودائماً ما يخص تاريخنا الطويل هؤلاء بالتقدير بألقاب الزهد والرشد والعدالة، ثم يبحث في تفاصيل تاريخهم عن مواقفهم التي كانت غنية باللمحات والإيحاءات الإنسانية، بينما يعمل بعض المؤرخين على إخفاء تاريخ التسلط والاستبداد والفساد، وذلك من أجل تحسين صورة التاريخ العربي والإسلامي أمام النشء الجديد.. وهو أسلوب انتهت صلاحيته في عصر لم تعتد تحتكر أو تختزل أحداثه رواية واحدة للتاريخ.
التغيير هو سمة طبيعية في حياة البشر، ولا بد أن ندرك بوعي أنه سنة كونية ثابتة، فالإنسان يتبدل من حال إلى أخرى، كذلك هو الزمن يتغير من عصر إلى آخر، لذا لا يجب أن تطغى على العقل الإداري مشاعر الخوف من التغيير، لأن أحد أهم عوامل الثبات والجمود هو فوبيا التغيير، التي تتحول إلى سلوك غير طبيعي قد يؤدي إلى كوارث داخل محيط العمل والإنتاج في الوطن، كذلك الدول تهرم إذا غابت عنها مراحل التغيير والتطوير، وإذا لم تدرك أن سنة الحياة الأبدية هي التغيير إلى الأفضل والقدرة على تجاوز التحديات، وإذا فشلت في ذلك تنهزم أمام قسوة حكم الحياة وسنن الكون الطبيعية، ثم تغيب عن مسرح الأحداث التاريخي.
أحياناً نشعر بالضعف أمام العقل الغربي، الذي اكتشف سريعاً أن الدوام هو للنظام المتغير، وللديموقراطية، وللحركة إلى الأمام، وأن العالم لا يجب أن يتجمد عند درجة السكون التي تقتل الطموح، لكن على الإيمان على أن الإلكترون إذا توقف يوماً ما عن الدوران حول النواة توقفت الحياة.