هناك الكثير من الظواهر الشعرية التي مرت بتاريخ هذه المنطقة في فترات متلاحقة مما ترك أثراً ما زال باقياً في تراثنا الشعبي على الرغم من عدم وجود وسائل الإعلام في ذلك الزمن حيث كان النقل الشفهي هو الوسيلة الوحيدة في نشر وحفظ ذلك التراث. ولعل من أبرز تلك الظواهر الشاعر خلف (أبو زويّد السنجاري الشمري) ذلك الشمالي الذي نثر إبداعه في القرن الماضي. ومع أن شهرته كانت محصورة لدى بادية الشمال آنذاك إلا أنه سجّل حضوراً مميزاً في تلك الحقبة وأصبحت قصائده تتلقفها الألسن وتسير بها الركبان، وبالإضافة إلى شاعريته الفذة فهو يحظى بقبول خاص لدى الكثير من أفراد وشيوخ تلك المنطقة. علماً بأن شكله ومظهره العام لا يوحي بذلك فهو قصير القامة، ضعيف البنية, أُصيب بالجدري في صغره مما ترك أثراً على وجهه وبصره إلا أنه كان سليط اللسان, سريع البديهة، حاضر الرد. حصل خلاف بينه وبين شخص آخر بسبب ناقة حيث يدّعي كل منهما بأنه ناقته فتخاصما لدى أحد شيوخ شمر وحينما دخلا مجلسه وكان عامراً بالحضور ذهب خصم أبو زويّد إلى صدر المجلس حيث أجلسه صاحب البيت بجانبه بحيث كان شخصاً معروفاً وجلس أبو زويّد في طرف المجلس فبادر خصم أبو زويّد بإخبار الشيخ عن سبب قدومهم فسأله الشيخ عن خصمه فأجاب بأنه ذلك الشخص القابع في طرف المجلس فرفع الشيخ صوته قائلاً: (هل هو ذاك الوجه الفليح) فوقف أبو زويّد على ركبتيه وأجاب بصوتٍ مرتفع قائلاً (أنا ماني وجه فليح الوجه الفليح عند خزنة الفضيل الذي يتخانق الحمار والبياض عند وجنتها أنا أبو زويّد وجه الذيب مخيّب الطليب مجدور وبعنة أجرب) فقاطعه.
|
الشيخ بعد أن عرف أنه أبو زويّد معتذراً لعدم معرفته به وطالباً منه أن يأتي للجلوس بجانبه فرفض أبو زويّد ذلك حتى انتهاء الخصومة فقال له الشيخ لقد انتهت الخصومة لصالحك سلفاً دون الحاجة إلى سماع الدعوى.
|
وقد كان لأبو زويّد نهج خاص في قصائده بحيث تخصص في وصف الإبل وتفنن في ذلك وقلّ أن نجد له قصيدة دون أن يبدأها بوصف الناقة فهي معشوقته التي كثيراً ما تغزل بها وقد اختص من الإبل (الحمر) ويقال إن (الحمر) أكثر الإبل قدرةً على الصبر والتحمل ولو استعرضنا بعض قصائده سنُدرك مدى ولعه وحبه لتلك الراحلة وكثيراً ما يبدأ قصائده بكلمة (حمراء) حيث يقول:
|
أنا هوى بالي خطاة السجلة |
حمرا هوى بالي وغاية مرادي |
حمرا ومذنب عينها تقل غلة |
تقلب كما المقباس حدر السوادي |
طول بعرض بابترام بجله |
حمرا سناد غاربه للشدادي |
|
يا راكب اللي للفيافي تموطي |
سربال دوٍ ما تليش بنوبه |
حمرا حقبها للملوح ينوطي |
يشوق قطاع الفيافي ركوبه |
وينتقل في وصف الراحلة من قصيدة إلى أخرى بأسلوب بديع لا يشعر معه المتلقي بالتكرار وذلك من خلال ابتكاره لمفردات جميلة بالوصف حيث يقول:
|
شقرا إلى ندهتها تطرب البال |
حمرا واذانه تقل جنحان موسى |
عليه سنام رد حالٍ على حال |
وكثر الشحم يرث عليها التعوسي |
كما يقول أيضاً من قصيدة أخرى:
|
يا راكب اللي كن مشيه يضدي |
محاقبه من سوجهن للحقب بيض |
حمرا حزبر منوة اللي يمدي |
اسجلة منوة مقضي الاغاريض |
تزهي إلى صارت بكورة تشدي |
لا مس حبله له تنهوص وتجضيض |
منوة غريب يم اهاليه يدي |
لا نفضت عن بطنه الربخ تنفيض |
وقصائده في هذا الشأن كثيرة وكثيراً ما تحمل مغزى وهدفاً، ففي أحد الأيام كان عند ابن مهيد وسمع أن خلافاً قد حدث بين جماعته من آل نبهان مما أزعجه فأرسل لهم القصيدة التي مطلعها:
|
يا راكب اللي ما يعوزه تواصيف |
حمرا من الثنتين يا من بها الذال |
قب الضلوع وطولها بالأطاريف |
شقرا شعر به من تحت تقل سروال |
إلى أن قال يحثهم على نبذ الخلاف وتحكيم العقل
|
تلفي لربعي نازلين الأطاريف |
نزاله الحزم المطرف إلى سال |
بتفرق الشوفات يا حيف يا حيف |
الله لحد ما طاح بالفكر رجال |
صيور ما القالات تأتي مناكيف |
تصبح كثيرات الحسايف لمن عال |
أما القصيدة التي كاد يفقد حياته بسببها فهي التي قالها في مدح سطام بن شعلان من شيوخ الرولة والتي مطلعها:
|
يا راكب اللي كنها سلوع الذيب |
حمرا ولا عم الحوير غذي به |
حمرا وتكسر من عياها المصاليب |
حمرا وتوه في جهلها منيبه |
وهذه القصيدة أغضبت الأمير محمد العبدالله الرشيد بحيث وضع جائزة لمن يأتيه بأبوزويّد وعندما علم بذلك قدم إلى حائل ليلاً وبعد صلاة الفجر قدم إلى قصر برزان وحينما شاهده الحرّاس قال له أحدهم (وش جابك لحتفك) فطلب الدخول وحينما وقف أمام ابن رشيد وكان يضع كفنه تحت ابطه قال: (أعرف يا طويل العمر انه حتى البحر لن يزبنني عنك لذا قدمت بنفسي وأنا أعرف أن من اوغر صدرك قد حرف معنى القصيدة على غير ما أقصده) ثم قال قصيدته التي مدح فيها ابن رشيد والتي مطلعها:
|
نجد جفتنا بالمحل وابعدتنا |
يوم اخصبت حنا هذولاك جينا |
بعد ذلك عفا ابن رشيد عنه. أما ما اغضب ابن رشيد في القصيدة السابقة فهو قول أبو زويّد يمدح ابن شعلان.
|
ما جابت الخفرات مثلك ولا جيب |
من مطلع البيضا لغربي مغيبه |
ما يستوي للبيض غيرك ضواريب |
البيض خطو المشتبه وش تبي به |
والشطر الأخير هو ما أغضب ابن رشيد لأنه يظن أنه هو المقصود بذلك.
|
صالح بن عبدالكريم المرزوقي |
|