كان من كبار مثقفي المدينة.. لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، حتى الأرصفة التي احتضنت خطاه.. حتى ذلك المقهى الذي كان يجلس فيه كل مساء.. وذلك الفنجان الذي يعانق يده.. وشلة الطيبين الذين يحتويه حبهم.. كان ككل المثقفين الذين جاءوا في زمن غير زمنهم يحترق كفتيل قديم أنهكه الوقت وصار ينهكه المرض والبطالة ليشعر أنه مجرد لعبة.. قد تكون اللعبة مكسورة أو مشوهة لا يهم فكل المعاني تؤدي إلى فوتوغرافيا واحدة وتصور ملامح هذا المثقف الكبير الذي قضى كل أيامه يضيء ويحمل الحرف قنديلا في الظلمات والمغارات ويشد القلم سلاحا لكل الأزمنة المتعبة..
ها هو الآن تقتله كهرباء الواقع الرديء بعد أن أنهكه المرض والبطالة.. ولم يعد يطعمه الحرف ولا القلم لم يعد يمنحه خبزا يؤمنه من جوع أو خوف.
طرق الكثير من الأبواب التي كانت تبدو مفتوحة أمامه على مصراعيها في زمن ما.. إنه لا يريد الكثير.. لا يطلب سوى خبز.. وكومة حب تهدهده.. ويد تشد على يده وتقول له: لست وحدك.. لكن الأقفال تآكلت بفعل الصدأ لتوخزه بألم آخر.. بوجع أكبر.. لتوقفه فاقتنع في قرارة نفسه بأن يركن إلى زاوية ما ويكتفي.. فالله يمنح كل طائر طعامه حتى الطيور الصغيرة.. حتى الطيور الجارحة.. حتى الطيور الحمراء!
لم يكن يسأل عنه أحد.
لقد صار المثقف الكبير ذلك المنسي الكبير..
حتى جماعة الطيبين الذين كانوا يشاركونه المقهى تفرقوا واندثروا في غبرة هذه المدينة.
ذات صباح أذيع خبر موت المثقف الكبير.. وكتبت الصحف ذلك بالبنط العريض وهرعوا كلهم لحضور جنازته ونظم القصائد عنه..
فتشت في الدفاتر القديمة فسمعت صدى ما يردد:
يا أيها الصاعدون على جثث الأغاني
أمهلوا موتي قليلا..
لألم بقايا الحياة بأجنحتي
فالرحيل ثقافة عصفور..
يفتش عن مرفأ في الفصول
بعد أن فقد على أرصفة المدينة خبزه.