اتسمت العقوبات بالشدة والقسوة منذ القدم، وغالباً ما انحصرت أهدافها في إطار الانتقام من الجاني وإيلامه والتنكيل به، وكان اتجاه القسوة هذا مرتبطاً ارتباطاً قوياً في نشأته واستمراره، وزواله كلياً أو جزئياً بالفلسفة السائدة في المجتمع حول الجريمة نفسه، فقد كان تفسير السلوك الإجرامي يستند إلى مفاهيم غير عقلانية..
.. واستتبع ذلك ظهور أنماط عقابية تعتمد بالدرجة الأولى على العقوبات البدنية، وأدى ذلك إلى معاناة شديدة للمجتمعات من العقوبات الماسة بإنسانية الإنسان والحاطة من كرامته.
ومع تقدم الفكر الإنساني تغير تفسير السلوك الإجرامي باتجاه الموضوعية والعقلانية، وبدأ الفلاسفة والعلماء يفكرون في تحقيق منفعة مستقبلية من وراء العقوبة ما دام أنها لن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل وقوع الفعل الإجرامي مهما كانت شدتها أو قسوتها، ثم ظهرت تساؤلات عن ماهية هذه المنفعة، وعلى من ينبغي أن تعود، وهل الانتقام من السجناء والتنكيل بهم من خلال العقوبات يصلحهم ويحقق هذه المنفعة. وقد أجابت الشريعة الإسلامية عن هذه التساؤلات بما يؤكد دون شك أن هدف العقوبة هو تحقيق منفعة أخروية تتمثل في الثواب العائد من إقامة شرع الله تعالى، وتحقيق منفعة دنيوية تتمثل في حفظ المصالح التي حرص الإسلام على حمايتها ومن ضمنها حقوق السجين نفسه كإنسان، وأجابت عنها أيضاً مختلف الاتجاهات الفلسفية والعلمية، بأنه ينبغي أن تكون للعقوبة منفعة مستقبلية تتمثل في الوقاية من الجريمة ومكافحتها، فالمجتمع ليس في حرب على السجناء بل في حرب على الجرائم كي لا تقع في المستقبل، ومن هنا اكتسبت منفعة العقوبة صفتها المستقبلية، أما المستفيد من هذه المنفعة فينبغي أن يكون المجتمع بأسره بما في ذلك السجناء أنفسهم.
أما من حيث الوسيلة التي تتحقق بها المنفعة المستقبلية للعقوبة فلا تزال مثار اختلاف يصل إلى حد التناقض بين بعض الثقافات، فعلماء الجريمة والعقوبة متفقون على أن هذه المنفعة تتحقق من خلال العقوبة الإصلاحية كاتجاه إنساني في العقاب وعامل رئيس في الوقاية من الجريمة، ولا تتحقق مطلقاً بالانتقام من السجناء أو التنكيل بهم والحط من كرامتهم الإنسانية، وقد أخذت بهذا الاتجاه سياسات جنائية كثيرة وأعلت من قيمته لدى العاملين في أجهزة العدالة الجنائية، مبتدئة بالإقلاع عن العقوبات التي تطول أبدان السجناء Punishments Physical) ( ، كشرط من شروط النجاح في تعديل إرادتهم الإجرامية وخفض درجة كرههم للمجتمع والنقمة عليه وعلى نظمه،كل ذلك كي لا يعودوا إلى ممارسة الجريمة. بينما تركز بعض السياسات على قسوة العقوبة واستخدام البدن لإيصال ألمها النفسي والفيزيقي إلى عمق الإحساس والمشاعر داخل السجين اعتقاداً منها بأن منع الجريمة يتحقق من خلال الألم الذي تحدثه العقوبة لدى السجين، ويتحقق أيضاً لدى بقية أفراد المجتمع من خلال الرعب الناتج عن مشاهدتهم لمنظر تنفيذ العقوبة.
ولما كانت العقوبة الإصلاحية التي ينادي بها الفلاسفة وعلماء الجريمة والعقوبة تنفذ من خلال برامج وجهود تتطلب وضع الجناة في ظروف مكانية وزمنية معينة لتنفيذها، فقد أصبحت عقوبة السَّجن هي العقوبة الرئيسة السائدة لدى السياسات الجنائية التي تبنت أفكارهم وما خلصوا إليه من نتائج في دراساتهم العلمية، في حين لا تزال باقي السياسات العقابية تنظر إلى عقوبة السَّجن على أنها وسيلة ضامنة لمنع السجناء من الهرب حتى تنفذ فيهم العقوبات التي تقصد الإيلام البدني على اعتبار أن هذه العقوبات - من وجهة نظر السياسات الجنائية التي توقعها - لا تتعارض مع الاتجاه الإنساني في العقاب، ولا تعيق البرامج الإصلاحية والعلاجية والتأهيلية.
وأياً كان عمق هذه الاختلافات وكثرتها فإن المنفعة المستقبلية للعقوبة غاية تسعى إليها جميع السياسات الجنائية لكنها تختلف في الوسائل، ويمكن النظر إلى هذه المنفعة بوصفها إطاراً عاماً تنضوي ضمنه كل أهداف العقوبة، وهي أهداف تكاد تكون مشتركة بين جميع السياسات العقابية، ويمكن تلخيصها في حفظ المصالح العامة والخاصة، وتحقيق العدل وتثبيت التوازن بين الحقوق والواجبات، وإصلاح السجناء وإعادة تأهيلهم للعودة إلى الحياة السوية في الوسط الاجتماعي الطبيعي، والوقاية من الجريمة من خلال إقناع الجاني نفسه بعدم العودة إلى السلوك الإجرامي وإقناع غيره بعدم فائدة أو جدوى الجريمة. وبقدر ما تحققه العقوبة من هذه الأهداف بقدر ما تكون ناجحة وذات منفعة مستقبلية، وبقدر إخفاقها تكون فاشلة وذات مضرة آنية ومستقبلية على السجناء، وعلى المجتمع وأمنه واستقراره.
لقد بات من المسلم به اليوم أن المجتمع يُسهم بشكل كبير في إفراز الظروف المناسبة لظهور الجريمة وبروز الشخصية الإجرامية لأسباب متعددة يأتي في مقدمتها سوء تنظيمه لبعض الجوانب البنائية والوظيفية والثقافية وبالتالي فإن المجتمع شريك في المسؤولية عن السلوك المنحرف أو الإجرامي، ومن هذا المنطلق بات لزاماً على المجتمع نفسه أن يوفر الشروط والإجراءات المناسبة للوقاية من الجريمة ابتداءً، ومكافحتها بعد وقوعها برد فعل يهدف في المقام الأول إلى إصلاح السجناء وإعادة تأهيلهم للحياة السوية.
ولقد أدى الفهم العلمي لهذه الحقائق من قِبل السياسة الجنائية المستنيرة إلى نقل المنفعة المستقبلية للعقوبة من المجال الفلسفي والأكاديمي إلى ميادين العمل حتى أصبحت العمود الفقري لنجاحها، أما السياسات التي جهلت أو تجاهلت هذه المنفعة فقد تحولت أجهزة العدالة الجنائية فيها إلى أجهزة قمعية تذكي في المجتمع نار الفوضى والعصيان والاضطراب، وصولاً إلى انهيار النظام الاجتماعي برمته كما حدث في المجتمعات الأوروبية في نهاية العصور الوسطى، وهي عبرة وعتها المؤسسات الاجتماعية الأوروبية في المرحلة المعاصرة فتخلت عن العقوبات المسببة للألم البدني، ونبذت أساليب وأهداف الثأر والانتقام من السجناء والتنكيل بهم، فهذه العقوبات والأساليب والأهداف جُربت كثيراً على مر العصور ولم تأتِ سوى بنتائج عكسية، فالجريمة وجدت حتى في المجتمعات التي نعمت بعهد الأنبياء والرسل، ووجدت كذلك في المجتمعات التي كانت لديها عقوبات مفرطة في القسوة إلى حد الوحشية، وهذا ما ولّد القناعة لدى السلطات في المجتمعات المتقدمة بأنها لا تملك - على الرغم مما توفر لها من إمكانات مادية وعلمية وتقنية - سوى محاولة التقليل من أعداد الأفراد المبتدئين أو المنخرطين في الأفعال الإجرامية من خلال خطط وقائية بالدرجة الأولى تقوم على حسن التنظيم البنائي والوظيفي في المجتمع، والتقليل من أعداد العائدين إلى الجريمة بانتهاج سياسة جنائية توظف معطيات العلم والمعرفة في تعاملها مع السجناء، وتغلبها على الأفكار التصورية الموروثة عن مشاكل الماضي وهي أفكار لم يعد لها من قيمة اليوم سوى كونها معياراً يُصنِّفُ علماء الجريمة والعقوبة على أساسه سياسة جنائية ما بأنها قاصرة ومتخلفة. ومن أراد تقييم هذا التصنيف فسيجد أنه تصنيف صحيح، وسيجد أيضاً أنها سياسة جامدة، وأنها تغذي عوامل جمودها وتخلفها بنفسها؛ باعتمادها المطلق والمستمر على العقوبات القاسية في التعامل مع السجناء، وتغليبها العنف وسيلة لمواجهة الجريمة، وانقيادها لفكر يركز على الماضي وعلى الفعل الإجرامي ذاته، وتصورها المغلوط بأن العقوبة وحدها قادرة على جعل الأفراد يقلعون عن الأفعال الإجرامية. ومن أراد، كذلك، أن يتعمق في المقارنة بين سياسة جنائية متخلفة وسياسة جنائية متطورة فسيجد أن موضوع المنفعة المستقبلية للعقوبة في ظل السياسة الأولى ما زال يطرح نفسه، ويثير تساؤلات ملحة عن مدى إدراك وفهم المتخصصين في صياغتها لحقيقة أنه ينبغي أن تكون المنفعة المستقبلية للعقوبة هي العمود الفقري للسياسة الجنائية في المرحلة المعاصرة، وسيجد أدلة قاطعة على أن هدف الانتقام من السجناء والتنكيل بهم من خلال العقوبة في هذه السياسة يقترن بتخلف شديد لدى بعض العاملين في أجهزتها من النواحي العلمية والفكرية والثقافية، وربما العقلية كذلك.
إن من أهم ما يميز السياسة الجنائية المتطورة أنها توسع من دائرة اهتمامها وأفق تفكيرها، فتستشرف مستقبل أمن المجتمع واستقراره في ضوء ما يتوقع من مستجدات على جميع الأصعدة، ومن هنا ترسم خططاً وقائية صحيحة، وتتبع برامج علمية لجعل السجناء ينبذون الإجرام ويعدلون إرادتهم الإجرامية عن اقتناع وتبصر وليس نتيجة لألم العقوبة ورهبتها، لأن الإرادة المبنية على القناعة هي التي تدوم، بينما تكون الإرادة المبنية على الرغبة في التخلص من الألم ضرباً من الخداع، لكون الألم شعوراً عارضاً يزول بزوال المؤثر، وبزواله تزول كل الخبرات المرتبطة به من الذاكرة. ومن أجل ذلك اعتمدت السياسة الجنائية المتطورة على عقوبة السَّجن في مواجهة جميع الجرائم تقريباً لكونها العقوبة الأكثر ملاءمة لتطبيق عددٍ من البرامج الإصلاحية ولا تتعارض معها أو تعيق السجناء عملياً أو نفسياً أو اجتماعياً عن الاستفادة منها، بل تتجانس وتتآزر معها، وهذا ما جعل بعض العلماء ومخططي السياسة الجنائية ينظرون لعقوبة السجن بوصفها عقوبة إصلاحية إذا ما طبقت وفق هذا السياق. بينما تضيق دائرة التفكير عند السياسة الجنائية المتخلفة، على الرغم من المعطيات العلمية الغزيرة في مجال الجريمة والعقوبة وما استخلصته المجتمعات من تجارب وخبرات عبر التاريخ حول العقوبة القاسية، فهذه السياسة أسيرة الماضي المتمثل في الأفعال الإجرامية التي حدثت في الأزمنة الغابرة وما كانت تقابل به من حلول وعقوبات قاسية تنحصر أهدافها في الانتقام من المذنب وإيلامه والتنكيل به ووصمه بالانحراف، ثم اعتمدت على هذه الحلول والعقوبات في مواجهة الجريمة في المرحلة المعاصرة، في حين قد اختلفت أسباب وعوامل الجريمة والمكونات الثقافية المؤثرة في مجرى الحياة الاجتماعية عما كانت عليه في الأزمنة الغابرة، هذا فضلاً عن التغير الجذري في هذه الجوانب وفي كل مناحي الحياة كل عقد تقريباً. وقد أعمى الجهل والتعصب هذه السياسة المتخلفة عن رؤية التزايد المستمر في معدلات العائدين إلى الجريمة، وأقعدها التشبث بالماضي البعيد عن دراسة وفهم الأسباب الكامنة وراء هذا التزايد، والتي لا أشك في أنه يأتي في مقدمتها العقوبات القاسية التي توقعها على السجناء.
إن إدراك القائمين على السياسة الجنائية لمفهوم المنفعة المستقبلية للعقوبة، والأخذ بالمعطيات العلمية في انتقاء العقوبة وجعلها عقوبة إصلاحية- لا يقل عن أهمية الأمن نفسه، وأهمية الوقاية من الجريمة، وفي هذا السياق يمكن استخلاص فوائد جمة ومهمة من تجارب المجتمعات التي عاشت فترتين غاب في الأولى هذا الإدراك كلياً، وفي الثانية بات حاضراً وموجِهاً للقائمين على السياسة الجنائية والعاملين في أجهزة العدالة الجنائية، ومن هذه الفوائد:
1- ان الأمن بمفهومه الشامل لن يتحقق في أي دولة تفتقر سياستها الجنائية إلى هذا الإدراك، حتى لو وجهت جل مواردها وطاقاتها لتحقيقه، وطبقت أشد وأقسى العقوبات، ذلك لأن سياستها الجنائية في هذه الحالة لا تقوم على أساس علمي، وبالتالي ستأتي عقوباتها بنتائج عكسية تُسهم في دفع الأفراد إلى اقتراف مزيدٍ من الجرائم، ما يصيب هذه السياسة بالإحباط والتخبط، ومن ثم تندفع إلى مزيدٍ من انتهاك الحقوق، والتطبيق شبه العقابي للإجراءات الجنائية والقضائية في سعي محموم لإدانة المتهمين وكأن هذا هو الهدف الرئيس للسياسة الجنائية، والتركيز على عقوبات قاسية تفسد أكثر مما تصلح، ومعاملة سجنية ذات طابع تنكيلي متسلط غايتها التنفيذ العقابي فحسب.
2- عبر هذه الصيرورة لتخلف السياسة الجنائية ينشأ حاجز من الكره والعداوة بين العاملين في أجهزة العدالة الجنائية والسجناء، وبخاصة من يعمل في السجون، يعيق السجناء عملياً ونفسياً واجتماعياً عن الاستفادة من البرامج الإصلاحية داخل السجون وبعد الإفراج عنهم.
3- تستمر هذه السلبيات ما استمر أصحاب التخلف والعقليات ذي الاتجاه الأحادي في رسم السياسة الجنائية والسيطرة على أجهزة العدالة الجنائية بوصفهم السبب في غياب هذا الإدراك لكونهم يتمسكون بكل قديم خَلِق، ويرفضون كل ما هو جديد ومفيد، كل ذلك لأن قدراتهم العقلية تقصر عن تعلم الجديد وفهم معطيات العلم الحديث.
4- تصاب السياسة الجنائية المتخلفة بالإحباط نتيجة لتزايد معدلات الإجرام على الرغم من قسوتها وقسوة عقوباتها فتلجأ إلى معاقبة السجناء، وربما المجتمع برمته، بعددٍ من الإجراءات من بينها إيقاع عقوبات واصمة يتعدى ضررها السجين إلى أسرته وذويه، وجرح مشاعر المواطنين والتسبب لهم في الألم النفسي من خلال تنفيذ العقوبات القاسية في الأماكن العامة تحت مظلة الردع العام كما كان يحدث في أوروبا في العصور الوسطى، وانتهاك الحريات بدعوى الوقاية وسد الذرائع، وهكذا تصبح المشكلات مركبة وتزداد الدوافع النفسية للجريمة لدى بعض أفراد المجتمع فترتفع أعداد المنخرطين في السلوك الإجرامي، وتزداد هذه الدوافع أيضاً لدى السجناء، وبالتالي ترتفع معدلات العود للجريمة.
وفي خضم هذه الدوامة العاتية وهذه المآسي المحزنة التي تفرزها السياسة الجنائية المتخلفة، يبدو التغيير أمراً مستحيلاً في نظر الكثير من أفراد المجتمع، وقد ظهر مثل هذا الإحباط لدى أفراد المجتمعات الغربية في العصور الوسطى عندما كانت سياستهم الجنائية تعيث فيهم قتلاً وجوراً وعدواناً وانتهاكاً لحقوقهم الآدمية، لكن الأمر كان مختلفاً آنذاك عند الفلاسفة والعلماء والمفكرين وغيرهم من رواد الإصلاح، فهم قادة التغيير الاجتماعي وينظرون إلى المستقبل من موقعهم، هذه نظرة أمل مقرونة بالعمل الجاد، والعزم، والصبر على ردود أفعال المناوئين لهم، مؤمنين بأن سنة التغير التي أودعها الله في خلقه لا بد أن تنتصر على بؤر الجمود والتخلف، وظلوا على هذه الحال حتى نجحوا في جعل غاية السياسة الجنائية في مجتمعاتهم هي تحقيق منفعة مستقبلية للعقوبة. وإذا ما أراد أمثالهم في أي مجتمع أن يحققوا مثل هذا الإنجاز الهائل، فعليهم أن يقتفوا آثارهم لإيقاظ سياستهم الجنائية من سباتها، والانتقال بأجهزة العدالة الجنائية فيها إلى المجال العلمي، وسوف يتطلب منهم هذا الأمر ومن جميع المؤسسات المستنيرة في المجتمع إجراء عملية تقويم شاملة يكون من بين أهدافها تصحيح مفاهيم العاملين في أجهزة العدالة الجنائية عن الجريمة والعقوبة، والارتقاء بتعليم وتأهيل من يعدون للعمل في هذه الأجهزة، وبخاصة من سيعمل منهم في السلطة التنظيمية (التشريعية) والسلطة القضائية، بحيث يشتمل تعليمهم وتأهيلهم على العلوم والمعارف المتعلقة بعلم الجريمة والعقوبة، وعلم الإصلاح وعلم النفس وعلم الاجتماع، وأن يحضوا بالتعليم والتدريب المستمر على رأس العمل، وأن يخضعوا لفحوص طبية ونفسية بصفة دورية، واختبارات للقدرات العقلية والميول والاتجاهات. عندها فقط يكون العاملون في هذه الأجهزة قادرين على بناء وتنفيذ سياسة جنائية عقلانية لا جور في عقوباتها ولا قسوة أو تعسف، ولا يخالط تنفيذها انتقام أو تنكيل أو وصم متعمد بالانحراف.. سياسة تضمن التعامل مع السجناء تعاملاً يحترم إنسانيتهم ويصون حقوقهم الآدمية وفق برامج علاجية وتأهيلية وإصلاحية قادرة على تعديل سلوكهم وحل مشكلاتهم وخفض مشاعر الوصم بالانحراف لديهم وإعادة ثقتهم بأنفسهم وإكسابهم المهارات النفسية والاجتماعية والمهنية والثقافية التي تمكنهم من التكيف الإيجابي مع أنفسهم ومع مجتمعهم، ورسم برامج أخرى لرعايتهم بعد الإفراج عنهم إلى أن يتمكنوا من سد عوزهم وكسب رزقهم بطرق مشروعة، وبالتالي الحد من عودتهم إلى الجريمة. وهذا هو لب المنفعة المستقبلية للعقوبة، وهو أيضاً ما يعد ضرورياً لتحقيق الأمن في هذا العصر، ويعطي للعقوبة مشروعيتها.. وأي عقوبة تجاوزت ذلك فقد تجاوزت العدل، وبالتالي سوف تتحول إلى واحدٍ من أخطر الأسباب المؤدية إلى ازدياد معدلات الجريمة والانحراف.