مضى على الندوة الوطنية لسلامة المرور التي نظمتها اللجنة الوطنية لسلامة المرور بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية أكثر من خمسة عشر عاما، إذ عقدت في شهر شوال، 1414هـ. ومضى على المؤتمر الوطني الأول للسلامة المرورية، الذي رعاه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز
وزير الداخلية أحد عشر عاما، إذ عقد في شعبان، 1418هـ. وكان ثمرة جهود مشتركة بين وزارة الداخلية ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية. واشترك في لجنته العليا المنظمة واللجان الأخرى المنبثقة منها عدد لا بأس به من إدارات الأمن وبعض الجامعات ووزارات وإدارات أخرى، وأشرف على لجنته العليا الزميل الدكتور ساعد العرابي الحارثي، مستشار سمو وزير الداخلية. ولقد تصفحت سجل أوراق المؤتمر، وفي صيف مضى كان لدي فسحة من الوقت لقراءة بعض من الكتب والدراسات التي وضعتها جانبا ليحين الوقت المناسب لقراءتها، أو على الأقل تصفحها. وبدأت أقرأ في مقدمة السجل الذي سطرت فيه موافقة المقام السامي الكريم على إقامة ذلك المؤتمر والأهداف التي تم تحديدها وبناء عليها تم طلب الكتابة في محاور اختيرت في ضوئها.
وكانت الأهداف المسطرة في مقدمة سجل وقائع المؤتمر ثلاثة: التعرف على أسباب حوادث المرور والمعوقات التي تعترض التوصل إلى سبل معالجتها، تحديد الأسس والآليات لتطوير التنسيق والتكامل بين الجهات ذات العلاقة بالمشكلة المرورية، والخروج بتوصيات قابلة للتطبيق للحد من نسبة تزايد وقوع الحوادث المرورية. وفي ضوء هذه الأهداف تم صياغة عشرة محاور للمؤتمر، منها، باختصار: خصائص وأسباب الحوادث المرورية، الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عنها، الخدمات الطبية والاسعافية التي تساعد على التخفيف من الخسائر البشرية، فعالية ودور التربية والتوعية المرورية في الحد من الحوادث المرورية، حالة المركبة والطريق ودورهما في السلامة المرورية، تطبيق العقوبات ونظام المخالفات المرورية، معوقات تطبيق نتائج الأبحاث والدراسات المرورية.
وسوف استعرض بعضا من الملامح الأساسية لبعض الأوراق العلمية التي انتظمت في محاور المؤتمر التي تمت الإشارة إليها آنفا، علها تكون منطلقا منه أعرض وجهة نظري حول هذه المعضلة التي يواجهها مجتمعنا ضمن المجتمع الإنساني على هذا الكوكب الذي شاء الله أن نعيش في كنفه. ومن المعلوم أن الحركة التي يزاولها كل منا على مدار الساعة، وتحت ظروف متعددة ومتباينة، هي نتاج تفاعل كل واحد منا مع نشاط روتيني تلفه ظروف زمانية ومكانية، وهذا التفاعل، كأي نشاط يزاوله بنو البشر، له أبعاد إيجابية وسلبية، وهذه الأبعاد نسبية لا مطلقة في جميع خصائصها ونتائجها ومحيطها الذي تحدث فيه.
تناول المحور الأول من محاور المؤتمر الوطني الأول للسلامة المرورية الحوادث والمخالفات المرورية والآثار الناجمة عنها. وما رصدته أحد الأوراق للعميد عبدالله الصقر من الإدارة العامة للمرور تبرهن فقدان 65 ألفا من الأنفس وإصابة ما يقارب نصف مليون خلال 22 عاما ما بين 1394- 1416هـ. ويذكر الباحث أن حوالي 60% منها بسبب أخطاء بشرية، أخطاء ارتكبها قائد المركبة، وفي مقدمة ذلك عدم التقيد بالسرعة المحددة أو إشارات المرور. ولو افترضنا أن العالم يفقد ما مجموعه 700 ألف سنويا، فنفقد في المملكة ما مجموعه 2955 من الأنفس سنويا، ويمثل ذلك بالنسبة لسكان المملكة 2 في المائة وعالميا 1 في المائة، فهل معدل الحوادث المرورية لدينا ضعف المعدل العالمي؟! سؤال مطروح للإجابة عليه وتحري أسبابه. وبمعدل سنوي في نسبة تزايد الوفيات بسبب الحوادث المرورية على مستوى المملكة (مقداره 2.9 في المائة)، وبناء على هذه التقديرات، التي دونها الباحث الصقر، يفترض أن الفترة مابين 1416-1422هـ شهدت ما يقارب 26 ألف حالة وفاة بسبب الحوادث المرورية.
وتبين الدراسة ذاتها أسباب الحوادث خلال الفترة المنحصرة مابين 1404 و1416هـ، إذ وجد أن 44 في المائة من مجموع الحوادث بسبب تجاوز الحد الأقصى للسرعة المسموح به نظاما و 15 في المائة بسبب عدم التقيد بإشارات المرور. يتضح من ذلك أن حوالي 60 في المائة من الحوادث المرورية في المملكة بسبب عدم التقيد بأهم نظامين من نظام السير هما: السرعة وإشارات المرور، وما تبقى من النسبة 41 في المائة نتيجة لأسباب أخرى متعددة من ضمنها التجاوز غير النظامي. أما الدكتور علي الغامدي فيذكر أن 56 في المائة من الحوادث تقع بسبب السرعة الزائدة وقطع الإشارة المرورية، ويذكر معدلات مخيفة بسبب الحوادث المرورية: قتيل كل ساعة وأربعة مصابين كل ساعة في شوارع وطرق المملكة. كما يذكر الدكتور الغامدي أن بيانات وزارة الصحة تؤكد أن 81 في المائة من الوفيات في مستشفياتها ناتجة عن الحوادث المرورية وأن خمس الأسرّة في المستشفيات يشغلها مصابو الحوادث المرورية. ودراسة الغامدي توضح نسبة أعلى للحوادث الناتجة عن السرعة خلال ثلاثة عقود: السبعينات والثمانينات والتسعينات: 45 في المائة بسبب السرعة الزائدة 13في المائة بسبب قطع الإشارة. وظاهرة السرعة الزائدة تفوق بمقدار 3.5 مرة وقطع الإشارة 4.5 مرة والتجاوز الخاطئ أكثر من ثمانية أضعاف مثيلاتها في دول غربية. ويدل ذلك على سلوكيات خاطئة، مميتة في معظم الأحيان، من قبل السائقين وعدم انضباطية منهم قد يكون مردها عدم الصرامة، وأحيانا، الانتقائية في تطبيق الأنظمة والعقوبات. ولثلاث سنوات متتالية (1993-1995م) تصدرت حوادث الطرق المرتبة الأولى من أسباب الوفيات في مستشفيات المملكة، وتشكل نسبة إشغال الأسرة مقدار الثلث بالمصابين نتيجة للحوادث المرورية. ونسبة الحوادث التي ينتج عنها وفيات تبلغ أكثر من الضعف في المملكة مقارنة بمثلها في دولة غربية مثل أمريكا.
ومن الناحية الديموغرافية للمتوفين من جراء الحوادث المرورية هنالك مأساة تتمثل في أن غالبيتهم في مرحلة الشباب مابين 15-34 عاما، وتبلغ نسبة الوفيات من جراء هذه الحوادث ضمن هذه الشريحة العمرية 78 في المائة. ومن العوامل المساعدة، للحد إما من ضراوة الإصابة أثناء حادث مروري أو حتى الوفاة، الأخذ بالوسائل الوقائية، ويأتي في مقدمة ذلك ربط الأحزمة للكبار واستخدام المقاعد الواقية بالنسبة للأطفال. وتشير الدراسات إلى أن نسبة من يربطون الأحزمة 4 في المائة فقط في المملكة (وفق نتائج دراسة أجريت في عام 1415هـ)، مقارنة بأكثر من 60 في المائة في كل من بريطانيا وأمريكا. أما الآثار الاقتصادية الناجمة عن حوادث المرور فيذكر الدكتور الغامدي أنه يعبر عنها عالميا بنسبة الفاقد من إجمالي الناتج المحلي وتتراوح هذه النسبة مابين 1-2 في المائة في الدول الصناعية، وبالنسبة للمملكة فإن جملة هذا الفاقد يتراوح بين 7 و41 مليارا من الريالات السعودية(بناء على تقديرات لدراسات مختلفة). ولو أخذ الحد الأدنى (7 مليارات) فسوف يتجاوز الفاقد 2 في المائة، متخطيا بذلك المعدلات العالمية، ولو أخذ الحد الأعلى (41 مليارا) فسوف يبلغ الفاقد 9 في المائة (علما أن الناتج المحلي للمملكة في عام 1994م بلغ 450 مليار ريال). ولو أخذنا بنقطة الوسط من هذا الفاقد، 4.5 في المائة حسب رأي الباحث، فستظل المملكة أعلى من دول عديدة صناعية مثل أمريكا وانجلترا واستراليا.
ومن الدراسات الحديثة نسبيا التي أجراها فريق علمي من قسم طب المجتمع بكلية الطب بجامعة الملك سعود عن ما يقارب 14 ألف حالة من سجلات المرور بمدينة الرياض خلال ثلاثة أعوام ونصف العام. ولقد كشفت الدراسة أن معظم المركبات بحالة جيدة والطرق مرصوفة رصفا جيدا ومستقيمة والإشارات الضوئية تعمل بكفاءة جيدة، وبالنسبة لأحوال الطقس من تساقط وضباب وغبار في وضعها الأدنى، ومعظمها في أيام مشرقة مابين الثانية عشرة والثالثة من بعد الظهر. ولقد حدد خطأ قائد المركبة العامل الأساس لثلثي هذه الحوادث، وتحديدا القيادة المتهورة والسرعة الزائدة. وكان 27 في المائة من السائقين المحترفين، وتتراوح أعمار ما نسبته 41 في المائة، من قائدي المركبات، مابين 25- 35 عاما، وفي وضع صحي عادي. وترجح الدراسة أسباب الحوادث ليكون منها: اللامبالاة، عدم الخبرة، قلة المعرفة، ضعف التركيز. ويمكن أن يضاف إلى ذلك ما يتعلق بأنظمة المرور والجزاءات المرتبطة بالمخالفات.
ولقد رجعت مؤخرا إلى موقع (المركز الوطني للوثائق والمحفوظات) http://www.ncda.gov.sa ثم حاولت الإطلاع على نظام المرور المسجل في الموقع فوجدت إشارة تفيد بأنه تحت الإعداد. وكان القصد من ذلك معرفة ما تم بشأن بعض المخالفات المرورية من تحديث ولمعرفة أنواعها وتحديد جزاءاتها ضمن ذلك النظام. ثم حصلت عليه بطريقة أخرى، ولقد صدر نظام المرور الجديد بالمرسوم الملكي رقم م/85 وتاريخ 26/10/1428ه، بعد حوالي 37 عاما من النظام القديم الصادر بتاريخ 6/11/1391ه. كنت أبحث على وجه الخصوص فيما يتعلق ب(قطع الإشارة الضوئية) التي كان يعاقب مرتكبها بغرامة مالية. وتجاوز الإشارة الضوئية الحمراء يترتب عليه نتائج مميتة في معظم الأحيان وتلحق الحوادث الناتجة عن هذا التصرف أضرارا جسدية بمن في المركبة أحيانا أخرى. وألاحظ مثلما يلاحظ غيري أن قطع الإشارة الضوئية أصبح متفشيا بين قائدي المركبات، ضمن استهتار شامل بالأنظمة المرورية بمختلف أنواعها. والمطلوب تجريم من يستهتر بأنظمة السير وبخاصة تلكم التي ينتج عنها حوادث تلحق بالناس الأضرار الجسدية من وفاة وإعاقة مؤقتة أو دائمة. وفي النظام الجديد يعطي للتفحيط 24 نقطة مخالفة مرورية ولتجاوز الإشارة الضوئية الحمراء 12 نقطة فقط، والخطورة متساوية بين المخالفتين، إن لم تكن أعظم بالنسبة لقطع الإشارة.
لقد فجعت الأسر ولا تزال في طول البلاد وعرضها، في داخل المدن وعلى الطرق فيما بينها، فهل من علاج للمشكلة والتعامل مع المستهترين بحزم وبقوة الشريعة التي ننعم وتنعم بلادنا بها بحمد الله. بقي على المنفذين أن يطبقوا ما شرعه المشرع، راجين من المولى القدير أن يحفظ شباب بلادنا ليكونوا ذخرا وفخرا لذويهم ولوطنهم إذ نحوهم تتجه الأنظار وتعلق الآمال وتحقق الطموحات.