كنت قد شرعت في عام 1418هـ في إعداد وتقديم برنامج في إذاعة القرآن الكريم يتضمن لقاءات مع عدد من أصحاب الفضيلة العلماء والدعاة وأصحاب الرأي والفكر ورجالات الثقافة وكنت أستمع بإنصات شديد إلى تجربتهم وحياتهم ومحطات أعمالهم والتي كان منطلقها غالبا جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ونواتها الأولى المعاهد العلمية.
استمعت في أحد تلك اللقاءات إلى شاهد عصر عليها وهو الشيخ عبدالعزيز المسند - رحمه الله - الذي تولى إدارة أحد أبرز معاهدها وهو معهد شقراء فور افتتاحه سنة 1374هـ ثم عمل مديرا للمعاهد والكليات وهو يتحدث عما أسماه البركة الكبرى لهذه الجامعة وحين سألته عن السر في ذلك أشار إلى أن الله أعلم صلاح النية والقصد في إنشائها من قبل الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ثم الملك سعود - رحمه الله - والشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبداللطيف وأخيه الشيخ عبدالملك - رحمهم الله -.
استوقفتني تلك المعلومات الموثقة التي كنت أتلقاها من الضيوف وجميعهم عملوا في بذرة تلك المعاهد ونشأة الجامعة.
وأنا أمر ذات يوم بهذا الصرح الكبير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي غدت اليوم أحد المعالم المميزة ليس للرياض فحسب بل للمملكة العربية السعودية.
استرجعت بذاكرة التاريخ حين انطلقت تلك النية في السبعينات الهجرية حيث توافقت رغبتي الملك عبدالعزيز - رحمه الله - والشيخ محمد بن إبراهيم في إيجاد تعليم شرعي نظامي مطور يختص بتعليم العلوم الشرعية اللغوية إضافة إلى عدد من العلوم العصرية ليتهيأ لطالب العلم بعدها للعمل في شتى الأعمال والمسؤوليات وبالفعل قامت تلك المهمة وافتتح معهد الرياض العلمي سنة 1370هـ والذي كان المشعل لإقامة ما عرف لاحقا جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
بل إن التسمية بهذا الإمام محمد بن سعود الذي حمل راية التوحيد وصدق في الدعوة إلى الله مع الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبدالوهاب - عليهما رحمة الله - تعتبر دلالة خير وبركة وصلاح لهما.
لقد ولد المعهد العلمي بالرياض ثم انطلقت بعده المعاهد ففتح ثاني معهد بالمملكة وهو معهد بريدة العلمي ثم لحقه معهد عنيزة العلمي والأحساء وغيرهما من المعاهد العلمية حتى تشكلت الجامعة في نظامها الصادر في تاريخ 1394هـ والمتضمن إنشاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعد أن كانت إدارة المعاهد والكليات.
لقد حرص سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - بنفسه على الإشراف على انطلاقة معهد الرياض العلمي وبداياته واختيار مسؤوليه ومدرسيه حيث أسندت إدارة المعهد إلى الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ حمد الجاسر مساعدا له.
ويرى الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - ندب الشيخ محمد بن إبراهيم له للاتصال والتعاقد مع من يصلح للتدريس في المعهد واختيار بعض الكتب التي ينبغي تقريرها في بعض العلوم العربية مع إحضار مناهج المعاهد الدينية وكلية الشريعة وكلية اللغة العربية التابعة لإدارة الأزهر، وكان التعاقد والاتفاق مع الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي ومحمد عبدالرحيم وغيرهم.
وبعد أن عاد الشيخ محمد من رحلته إلى مصر للعلاج عام 1370هـ (1950م) قابل الملك عبدالعزيز - رحمهما الله - سأله: ما الذي أعجبه في مصر؟ فقال سماحته: الأزهر وما ألحق به من معاهد، فما كان من الملك إلا أن قال: ينبغي أن نفتح المعهد الآن. وأصدر الأمر بإعداد جميع ما يلزم لذلك، فبدئ بتأثيث بناية المعهد التي أنشئت قبل بضع سنوات تأثيثا حسنا، بجميع ما يلزم لذلك، وتم إدخال الكهرباء للإنارة والتبريد وإدخال الماء العذب، وذلك في آخر عام 1370هـ.
فكان افتتاح كلية اللغة العربية سنة 1374هـ (1954م) وكان عدد طلابها عشرين طالبا. انتهى.
إن من المتعين في هذه المرحلة المفصلية في التاريخ السعودي وتنميته وتعليمه أن يتم الدفع وبشكل عاجل إلى النهوض بالأعباء التربوية الملقاة على كاهل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والتي تعتبر المحضن الأول للعلم الشرعي في المملكة العربية السعودية.
إضافة إلى دورها الكبير في تخريج وتزويد الجهات القضائية والشرعية والدينية بالكوادر المؤهلة منذ طلائع السبعينات الهجرية وإذا كانت كلية الشريعة بفروعها قبل أن يتم دمج الكليات خارج الرياض بالجامعات التي أنشئت في عدد من المناطق قد شكلت لوجه وسمة بارزة في خارطة الجامعة فإنه آن الأوان أن يتم إعداد خطة تطويرية شاملة للعلم الشرعي وخصوصا كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والتي ستكون أنموذجا يحتذى لاحقا للكليات الأخرى الموجودة في الجامعات حاليا.
وذلك حسب نظري للآتي:
1- تطور مخرجات التعليم الشرعي حيث إن المناهج التي كانت مقررة منذ افتتاح كلية الشريعة بداية السبعينات الهجرية لم تتغير إلا ما ندر.
2- الحاجة إلى أقسام ومؤهلات أخرى تتلاءم مع متطلبات سوق العمل في الاستشارات القانونية والمحاماة والأنظمة وغيرها.
3- الحاجة إلى إدراج العديد من المناهج الهامة التي أصبحت ضرورة وتخصصا مثل حقوق الإنسان والأنظمة القضائية وأنظمة الدولة.
4- ضرورة الاستغناء عن بعض المواد المثقلة للفصول الدراسية وذلك عبر تخفيض عدد الساعات فيها وتشكيل لجنة علمية مختصة لتقدير ذلك.
5- ضرورة ملائمة تلك المناهج للجامعات والدراسات العليا الأخرى التي قد يلتحق بها الدارس لاحقا مثل جامعة الأمير نايف للدراسات الأمنية ومعهد الإدارة وجامعات الشريعة والحقوق المنتشرة في العالم العربي والإسلامي والجامعات الحقوقية العالمية وتسميتها بكلية الشريعة والحقوق.
6- أهمية توافقها مع النقلة التطويرية التي سوف يشهدها المعهد العالي للقضاء والتي وجه معالي مدير الجامعة الشيخ الدكتور سليمان أبا الخيل بتكوين لجنة تطويرية له تتماشى مع صدور الأنظمة القضائية والعدلية مؤخرا. سيما وأن المعهد هو الجهة الوحيدة المعتمدة لتأهيل القضاة في المملكة.
إن حالة الانكفاء التي تعيشها أقسام كلية الأنظمة والقوانين في بعض الجامعات وعدم محاولتها الموائمة بين الدرس الفقهي الشرعي الأصيل وبين الأنظمة واللوائح الصادرة أوجد بلا شك حالة ارتباك لدى خريجيها وصار كثير منهم يشكو عرجا علميا نتيجة عدم تلقيه تلك المواد الشرعية الهامة وما التردد الذي تشهده المؤسسات القانونية ومكاتب المحاماة والجهات القضائية وعدم استيعابها لخريجي تلك الكليات والأقسام مؤشر واضح على الخلل الموجود فيها.
وفي اعتقادي أنه لا يقل عنه الإعراض الواضح من قبل كليات الشريعة عن إدخال تدريس الأنظمة القضائية بدءا بنظام القضاء وديوان المظالم ونظام المرافعات الشرعية ونظام العمل وغيرها مما أوجد نقصا تأهيليا واضحا في خريجي تلك الكليات الشرعية ومن ثم كان لجوؤهم إلى التطوير الذاتي عبر الانخراط في برامج تأهيلية لاحقة تنظمها الغرف التجارية ومعهد الإدارة ومعاهد القانون الأهلية وغيرها.
ثانياً: أعتقد أن من أكثر الجدليات القائمة حول جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية هو توسعها في تدريس بعض الكليات التطبيقية والعلمية الأخرى المتجددة والتي تدعو الحاجة إلى ضرورة استيعاب الطلاب فيها مثل كليات الطب والحاسب الآلي وغيرهما.
ومن المؤكد أن هناك فريقا يرى ضرورة البقاء على رسالة الجامعة الأولى التي بدأت بها وهي الرسالة الشرعية الدينية البحتة وعدم الخروج بها في تخصصات أخرى قد تبعد الجامعة عن رسالتها التي نجحت بها وهو تدريس العلم الشرعي والعناية به ونشره.
وعلى الرغم من أن هذا الرأي يتبناه حتى بعض طلبة العلم ممن خارج رواق الجامعة مذكرين دوما بتجربة الأزهر الذي ما إن انفتح على بعض العلوم حتى غرقت رسالته الشرعية الأساسية في بحر تلك العلوم حسبما يقولون.
إلا أن هذا الرأي وهذه التجربة المشار إليها تبقى محل نظر وتأمل فليست التخصصات في نظري هي التي تبني الجامعة أو تفشلها بقدر ما هي الخطط التي تسعى إليها الجامعة والأولويات التي تريد النهوض بها.
إلا أن فريقا قويا آخر يرى أن نجاح جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية طوال الخمسين عاما الماضية في العلوم الشرعية واللغوية والاجتماعية سوف يقودها حتما إلى نجاحات أخرى تطبيقية في الطب والحاسب الآلي.
سيما وأن الجامعة حتما سوف تستفيد من تجارب الجامعات الأخرى في تلك العلوم إضافة إلى الإمكانات والتجهيزات المتاحة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والتي أوجدت لديها بنية تحتية هائلة أصبحت بلا جدال محل إعجاب زوارها وروادها إلا أن الحقيقة التي لا مناص من ذكرها أنه آن الأوان إلى فكر التطوير الناجح الفاعل الذي يتلاءم مع متطلبات القيادة الرشيدة وولاة الأمر نحو شبابهم ومستقبل أبنائهم.
ومن هنا فإن التطوير المدروس والمتأني سوف يحقق طموحات كبرى ينتظرها الجميع خصوصا من جامعة عريقة حظيت بثقة الناس والمسلمين في الداخل والخارج وأصبحت معاهدها وكلياتها مصدر إشعاع وصلاح في شتى البقاع.
لقد امتازت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية خلال مسيرتها التي ناهزت خمسين عاما بعنايتها الفائقة بالإرث الشرعي تحقيقا ونشرا ودراسة عقديا وفقهيا بالأخص إضافة إلى دراستها المتخصصة المتميزة أيضا في السنة والحديث والتاريخ والأدب واللغة مما جعلها بلا منافس أكبر محضن لهذه العلوم ومن هنا فإن من يتأمل حركة النشر للجامعة خلال السنوات العشر الماضية يدرك أنها لا تتناسب مع حجم وعدد تلك الرسائل المتميزة والمتراكمة التي ملئت رفوف وأقسام الجامعة ولما تظهر للنشر بعد مع الحاجة الماسة إلى المئات منها خصوصا تلك الفقهية المرتبطة بالنوازل والأحكام التي أحوج ما يكون إليها القضاة والدارسون والمهتمون بالقضايا الفقهية والحقوقية.
بل إن نظام الجامعة نص على الآتي (العناية بالبحوث الإسلامية والقيام بترجمتها ونشرها وتنظيم العلاقة بين الجامعات وجامعات العالم لسد الفراغ في الدراسات الإسلامية).
وإذا كانت إدارة النشر قد وجدت في الجامعة منذ وقت مبكر فإن الحاجة قائمة على تنشيط هذه الإدارة التي تعنى بنشر تلك الرسائل الهامة فورا.
خصوصا في ظل الوفرة المالية والنهضة التي تشهدها الجامعة كما أن لدى الجامعة تحديات عديدة يجب أن تسعى لتحقيقها فورا ومنها ما يلي:
1- التأهيل والكفاءة ورفع مستوى الأداء وزيادة الحوافز التشجيعية لأعضاء هيئة التدريس الذين أصبحت كثير من الجامعات السعودية تشكو من تسربهم مما يستدعي سرعة إعادة النظر في الكادر الوظيفي لأعضاء هيئة التدريس وزيادة حوافزهم المالية ودفعهم للعمل البحثي الجاد.
2- تفعيل وتعزيز رسالة الجامعة ودورها في خدمة المجتمع عبر مزيد من البرامج والندوات والأنشطة التي سوف تسهم في خدمة المجتمع واستهداف فئات المجتمع العمرية جميعا بلا تمييز ومخاطبة الجنسين الذكور والإناث وغير ذلك.
3- تفعيل وتطوير وتعزيز دور الجامعة عبر الكراسي البحثية المساعدة والتي يقوم عليها التمويل الخيري من قبل رجال الأعمال والموسرين التي سوف تسهم في تطوير دور الجامعة إضافة إلى إحياء روح العلم الغائبة لتكون رافدا للجامعة.
إن الراصد لمسيرة الجامعة مؤخرا يدرك التطورات التي تعبر بوضوح عن الرغبة الجادة لدى معالي مدير الجامعة والمسؤولين فيها.
كما أن حصول الجامعة على المركز الأول من بين 18 جامعة محلية لمشروع وبرامج الإبداع والمتميز لأعضاء هيئة التدريس يؤكد قوة الحراك العلمي والإداري الذي تعيشه الجامعة.
وختاما فإن الجامعة التي أمدت هذه البلاد وأجهزتها الرسمية كافة بمسؤوليها ووزرائها وقضاتها ورجالاتها تستحق الاحتفاء والتقدير سيما وهي في هذا العام القادم تكمل عقدها الستين لتعبر عن مسيرتها الستينية المديدة منذ افتتاح أول معهد علمي والتي كانت حافلة بالعلم والعطاء ونشر العقيدة الصافية وإشاعة مذهب أهل السنة والجماعة وسلف الأمة في العالم قاطبة إضافة إلى رصيدها العظيم في شتى العلوم الشرعية والاجتماعية والأدبية لتواصل بعدئذ مسيرة مستديمة بإذن الله.