كثيراً ما نتفكر في أمر التغيرات الطارئة التي مست سلوك الشابات والشباب، لنذهب في حيرة بين مصدق ومكذب، بينما العيون الشاهد المباشر على صور التغيرات السافرة، وهي الدليل الباعث لكثير من الأسئلة، ولعل أولها: هل كان هذا الظاهر هو ذاتها الطبخات الهادئة التي حدث الإعداد لها, بل العمل عليها داخل مطابخ البيوت, في حضور الآباء والأمهات، أو في غفلتهم؟.., ذلك لأن هذه الظواهر ما أن تطأ قدمك سوقا إلا تجدها صادمة لعينيك، وما أن تضطر للخروج للشوارع الكبيرة في ساعات مختلفة عابرا منها أو قاصدا لما فيها, إلا تجدها بين عينيك، وكثيرا ما كتبت هنا عنها، وألمحت إليها، وربطتها بمسؤولية التنشئة ومهام الوالدين، ونبهت لنتائجها وأبعادها، وأعدت جزءاً من مسؤوليتها للمربين الظاهرين في ساحات مؤسسات التعليم، أو الخفيين في وسائل الثقافة والإعلام، مثل هذه التغيرات التي طبخت واستوت, ثم قدمت للشارع تمثلها فئة الشابات السافرات بلا حدود، الراكضات لتمثيل شعارات ماركات الأزياء التي امتدت مكناتها ومقصاتها من الرأس للقدم، ولأساليب تصفيف الشعر الذي لم يعد بينه وبين العيون حاجز، تسبقهن روائح عطرية نفاذة، وتتخاطف العيون لمعات ما تتزيا به أصابعهن وسواعدهن ونحورهن, ولن تعدم الآذان مشاركتهن نغمات هواتفهن النقالة أو أجهزة النقل المنوعة صغيرة الحجم قزحية الألوان وأسلاكها تزين صدورهن، وهن يتنقلن من مكان لآخر وكأنك في أحد أكبر أسواق عواصم أوروبا أو أمريكا، ثم إنك لن تفقد التمتع بلكناتهن المتفاوتة في نطق الإنجليزية التي هي على ألسنتهن أسرع وأتقن من العربية.. وتتساءل: متى تم طبخ هذه النماذج وبمثل هذه السرعة؟ أم أنها كانت تنتظر فرجة الباب لتهرول..؟ وقس على ذلك الشباب الذكور إذ لمرات استوقفت من صغارهم لأسأله: ماذا يعني لك تلوين شعرك بالأصفر والأخضر؟ أو ما يعني لك هذا المظهر الذي اخترت له هذا النوع من الرداء..؟ أو لماذا تسدل شعرك على هذا النوع من تقليد مشاهير أهل الغناء والتمثيل؟.. وماذا تعني للفئتين كلمة الحرية؟ وما الفرق بين الحرية والانفلات؟ أو بين الأناقة والتقليد..؟ أو بين المعقول والمنقود..؟
وفي المرات القليلة التي ارتدت فيها لحاجة حيث يكونون يكون الجواب نظرة ساخرة، تكاد أن تطيرني لمكان قصي يحسبون أنه يليق بمن تحمل عقلاً غير تقدمي، وأفكاراً متخلفة، وهم يرددون: (نحن في زمننا نعيش).. وكأنني خارج الزمن وآتية من كوكب مظلم..
كنت أفكر في مهاتفة ابن صديقتي، فإذا به يتم حديثه: (أعلم أنني أستلب وقتك سيدتي الوالدة)، أكدت له سعادتي بإفضائه وأن هناك ثمة من يحتاج لقراءة تفاصيله، فقال: (قضايانا نحن الشباب دقيقة وحساسة، فنحن جيل القنطرة، هذه عبارتك يا خالتي.. نعم, لكن إلى أين؟ كل شيء أمامنا صعب، ننظر لما بعد الثانوية، فالجامعات الآن تضع شروطا ليست في معايير إعدادنا لها في المدارس، وتركز على التخصصات العلمية والمدارس لا تُعدُّنا بمستوى يمكِّننا منها، كما لها شروط وقوانين وأنظمة استنت حديثاً، كلها نجد قدراتنا عاجزة تماما بشكل جماعي أمامها، بينما الممكن مُحال, فكيف بالأصعب، وما بالك بالأصعب منه..؟، وقبل ذلك دعيني خالتي أسأل: ماذا أعدت لنا مؤسسات المجتمع لنتخلص من إرث الاتكال على والدينا في كل أمورنا؟ لنواجه حياة عصرية تحوَّل المعروض فيها للطلب؟.., فمن خلال حياة كثيرين من جيلي الذين أصفهم كالبحارين ينطلقون للبحر وهم لا يتقنون السباحة للأبعد لكنهم مضطرون لذلك.. تبدو لنا الحياة صعبة جداً، والمستقبل أكثر غماماً.. سألته أن يبسط.. فبسط القول الذي سيأتي.
(ستواصل)