لا أحد يجهل بالتأكيد المؤشر الأشهر عالمياً وتاريخياً المدعو (داو جونز) ولا أحد كذلك يجهل ما لهذا المؤشر من الحواس (المالية) غير الطبيعية التي قد يتفوق في مقدار حساسيتها على حواس الإنسان الخمس مجتمعة للدرجة التي يستبق فيها دائماً (الخبر) قبل ظهوره، فيحزم أمره، فإما صعوداً كصعود الصاروخ أو هبوطاً عامودياً وكأنه مظلياً فقد وعيه. ففي الوقت الذي يصارع فيه الاقتصاد الأمريكي أزمة تعتبر هي الأخطر منذ أكثر من أربعة عقود أو تزيد، كان الداو جونز يحقق أداءاً إيجابياً لافتاً خلال بعض فترات التداول وكان الاقتصاد الأمريكي (لم يسمع) بالأزمة المالية، ولم (تترعرع) تلك الأزمة بين جنباته.
وعلى النقيض من ذلك، دعونا نتأمل ما حدث بعد ظهيرة يوم الثلاثاء الماضي وكيف نفش الداو جونز ريشه وأذن بصوت عالٍ محتجاً وبشدة على (الغموض) أو (الضبابية) التي غلف بها وزير المالية السيد غيثنر خطة إنقاذ القطاع المالي والمصرفي الأمريكي بعد إقرارها من مجلس الشيوخ ليفقد الداو جونز ما يقارب الأربعمائة نقطة حينما انهمر سيل البيوعات من كل حدب وصوب وخلال فترة زمنية قصيرة.
ما وددت أن أركز عليه هنا حقيقة هو قضية (الغموض) في التعامل مع المشاكل الاقتصادية، وهي من ألد أعداء مؤشرات الأسواق المالية، فالغموض ليس له إلا معنى واحداً فقط، وهو بالتأكيد أمراً سلبياً، لذا فالغموض يخلق بيئة من (عدم التيقن) في الأسواق، فتنتشر الشائعات، وتنشط حكايات (القيل والقال)، حينها تسير مؤشرات الأسواق بغير هدى لتتقاذفها قوى (الشر) داخل السوق (وخاصة الأسواق الصغيرة الحجم) فتسخرها لمصالحها لتحقق من وراء حالة عدم التيقن تلك المليارات من النقود (السهلة) بينما لا يجني المساكين سوى مرارة العلقم.
ماذا عن مؤشرنا العزيز (تاسي)؟
يتميز مؤشرنا العزيز عن غيره من مؤشرات العالم بقدرة فذة على التفاعل السريع جداً مع الأخبار الاقتصادية العالمية (السلبية فقط) وكأنه معني بها وبشكل مباشر، في حين أنه لا ناقة له ولا جمل بما يحدث في الخارج، بينما يمر الاقتصاد السعودي بأفضل حالاته على الإطلاق، من حيث وجود الفوائض المالية التاريخية والإنفاق الحكومي الضخم على مشاريع البنية التحتية والمدن الصناعية، وانخفاض الدين العام إلى مستويات قياسية، وما إلى ذلك من الأخبار الاقتصادية الإيجابية والتي قلما تتوافر في أي اقتصاد آخر حالياً.
ومع ذلك يغض مؤشرنا العزيز الطرف عامداً متعمداً وبكلتا عينيه عن تلك المنجزات، هل تعلمون لماذا؟ السبب هو (الغموض) الذي نتحدث عنه.
هذا الغموض وهذه الضبابية التي تحيط بسوق الأسهم السعودي هي بسبب قوة وكبر الاقتصاد السعودي وضخامة حجم الأموال المدورة داخله والإمكانات الكبيرة والمتنوعة التي يكتنزها الاقتصاد السعودي والتي أعتقد جازماً بأنها (ومنذ مدة طويلة) أكثر من كافية لنقل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد عصري ومعرفي ينافس أقرانه لا أقول من الاقتصادات الناشئة بل من الاقتصادات المتطورة، ولكن يكمن الخلل في قطاعنا المالي حقيقة، حيث يتضح وبمجرد إلقاء لمحة سريعة على هذا القطاع عدم التكافؤ من حيث الحجم بينه وبين الإماكانات الهائلة للاقتصاد السعودي.
وليس سراً حين نقر بوجود علاقة إيجابية (طردية) بين حجم القطاع المالي لأي اقتصاد وحجم الاقتصاد المحلي الذي يخدمه القطاع المالي.
وأظنني لا أحتاج إلى كثير جهد للحديث عن قطاعنا المالي المصرفي ذي الصبغة الاحتكارية البحتة باقتصاره على عدد قليل يجد المتخصص الاقتصادي السعودي نفسه في حرج كبير عند ذكر الرقم حين يكون الحديث عن الاقتصادات الخليجية والعربية ناهيك عن الإقليمية والدولية.
لقد رأينا كيف تأثرت بنوكنا بفعل الأزمة المالية وكيف شددت شروط الإقراض وبعضها امتنع تماماً عن الإقراض وهي التي كانت ترفض تماماً فكرة تأثرها بالأزمة المالية العالمية.
لقد أحسنت مؤسسة النقد التعامل مع الأزمة المالية وقدمت الكثير من الدعم للبنوك من حيث القيام بتخفيضات متتالية على معدلات عائد اتفاقيات إعادة الشراء (اقتراض البنوك) وضمانها توفير المزيد من السيولة للبنوك عند الضرورة، وضمانها للودائع في البنوك، ولكنها لم تقم بالخطوة الأهم وهي تقديمها للضمانات المالية المؤكدة لجميع القروض التجارية والاستهلاكية الجديدة التي تقدمها بنوكنا المحلية ذات العدد القليل.
إن عدم قيام مؤسسة النقد بتلك الخطوة وفي خضم الأزمة المالية العالمية وفي الظروف الصعبة الحالية (والمستقبلية) التي تمر بها بنوكنا المحلية حيث يعاني بعضها (أو جلها) وبنسب متفاوتة من آثار تلك الأزمة، يدفعني إلى الدعوة لفتح المجال لإنشاء مصارف المناطق لتقديم الخدمات المصرفية والتجارية وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية على أن يقتصر نشاط كل مصرف على المنطقة التي يتواجد فيها، بالإضافة إلى استمرار الخدمات التي تقدمها البنوك التجارية الحالية على مستوى المملكة، والتي قد يرى بعضها أن من الأفضل له اقتصار خدماته على منطقة بعينها.
ما دفعني للكتابة في هذا الجانب حقيقة هو تخلي مؤسسة النقد عن تقديم ضمانات للقروض البنكية وتركها للبنوك لتقوم بنفسها بإدارة مخاطر الائتمان على أن تتحمل البنوك نفسها وزر قراراتها فيما يخص الإقراض، وهذا يعني فتح آفاق جديدة في القطاع المصرفي كالسماح بإنشاء المزيد من المصارف، فزيادة العدد تعني إمكانات مالية إضافية وبالتالي تمويل إضافي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والأفراد، والأهم من ذلك هو أن وجود المنافسة في هذا القطاع سيضمن له مستوى جيداً من كفاءة الأداء والعدالة الاجتماعية، وهذا مما يحفز على زيادة النشاط الاقتصادي المحلي وتطوره، وبالتالي خروج الاقتصاد السعودي من عنق الزجاجة التي يجد نفسه فيها منذ عشرات السنين بسبب صغر حجم القطاع المصرفي ووقوع تاسي رهينا لتلك العلاقة الغير عادلة ليدفع تاسي ثمن السلبيات المزمنة التي يعانيها قطاعنا البنكي بسبب تركيبته غير المناسبة للمرحلة الحالية.
وعوداً على بدء، الغموض الذي تحدثت عنه في بداية مقالتي مصدره هو القطاع المصرفي المحلي وما يحدث فيه حالياً من عدم اتزان في مخاطر الائتمان لديه أدى إلى شيوع قدر كبير من الشعور بعدم التيقن لدى المتعاملين في السوق.
أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية المشارك بجامعة الملك سعود
alhosaan@gmail.com