أوباما والتغيير كلمتان أضحتا صنوان.. فالرئيس الأسمر القادم من فسيفساء التفاصيل الثقافية العالمية في نظر الكثيرين - وليس الكل حتماً - عنوان المرحلة العالمية الجديدة، فالأصول الكينية والدراسة الإندونيسية والحياة الأمريكية والعرق الأسود والأصول الإسلامية والانتماء الديمقراطي لا يمكن إلا أن يشكل النموذج الفريد الذي يتطلع العالم إلى صياغة التغيير من خلاله!
مهما تكن مساحة التغيير القادمة من أمريكا فإن المسافة الفاصلة بين أمريكا الإنسان، وأمريكا الدولة قد لا تكون كبيرة حتى وإن تجاوزت عاطفتنا حدودها لدواعي الخطاب الدبلوماسي!، أمريكا الإنسان والدولة ليستا للعارفين سوى امتداد لأسطورة هوراشيوا الجيرا والتي تربت عليها الأجيال الأمريكية لتنتج الحالمين بالتغيير من بوابة الثراء والغنى.. ولذا فإن مشروع التغيير الأمريكي السياسي والاقتصادي وربما الاجتماعي والمنتظر منه تصحيح المسار لابد أن تكون من لوازمه استلهام بذور الروح الأمريكية المؤمنة بالأفضل والأصلح والأحسن والتي تجعل كل أمريكي مشروعاً ثرياً أو غنياً مؤجلاً، الأمر الذي يجعلنا لا نبالغ إذا ما وصفنا هذا الحلم بالجسر الذي قاد أمريكا ومن ثم العالم إلى الأزمة الاقتصادية التي يعانيها العالم اليوم.
تتبع الحكايات والطرائف داخل المجتمعات يكشف عن الخيوط التي لا يلم بها التحليل التقليدي الذي يرهق فيه المحلل نفسه في المتغيرات تثبيتاً وتحريكاً، وقد استوقفني ما كتبه أنتوني سمبسون في بداية الثمانينات الميلادية حين قال إنه سمع أحد مديري البنوك الأمريكية في نيويورك في حفل مصرفي ساهر ساخر يهمس قائلاً: إن الودائع على الطلب في نيويورك لم تزد دولاراً واحداً بالقيمة الاسمية خلال خمس سنوات وما لم يتوصل أحد إلى طريقة يضع يده خلالها على المليارات المودعة في مصارف نيويورك فلا طريقة للتوسع!
قيلت تلك الكلمات قبل أكثر من ربع قرن ولم يلق لها أحد بالاً لكنها اليوم لابد وأن تستدعى للمساعدة على فهم الأزمة!
التوسع والنمو هما قضبان الحديد التي قادت عربات الاقتصاد العالمي إلى الهاوية، النمو الذي يستهدف تعظيم المنفعة دون قيمة مضافة ودون عقال التنظيم والتوثيق ولذا فقد أخطأ الكثيرون في رؤية الأزمة العالمية وقراءة عناصرها دون وضعهما في السياق الصحيح فجاءت أطروحات عاطفية تتحدث عن الرأسمالية وسقوطها ومبالغات ساذجة لصياغة نظرية جديدة لنهاية ما كتبه التاريخ لا تقل تبسيطاً عن ما طرحه فوكوياما حول ذات التاريخّ لكننا بالمقابل لا يمكننا تجاهل أزمة كشفتها الأزمة لنشهد في مجتمعنا العربي خصوصاً فريقين لا توسط بينهما.. مدافعين عن الرأسمالية وسؤددها الأنظمة الاقتصادية دون إدراك أن نموذجها التنظيري لم يقم أصلاً ليسقط فقد طبق النموذج بمقاييس مختلفة في كل مكان وواجه منعطفات كثيرة صدرت خلالها أنظمة تتعارض مع أبسط مقدمات النظرية حتى أكملت الأزمة الحالية النصاب لتشمل التأميم في صورة لم يكن يحلم منظرو الرأسمالية وفلاسفتها أن يصل النموذج إليها.. أما الفريق الآخر فيصر بأن الرأسمالية أصل الشرور باعتبارها عدوة العدالة الإنسانية.. لكن ما يزيد من تعقيد المسألة رغم سخريته أن الرأسمالية تقدم نفسها كراعية للعدالة.. عدالة الكيف لا الكم ما يعكس حقيقة أن الخلاف بين مؤيديها وخصومها ليس على العدالة وإنما مرجعيتها الفلسفية والمعرفية.. أيما يكن الأمر فإن الحقيقة التي لفها الغموض في تراكم الانتقادات والإشادات حول النموذج الرأسمالي تكمن في الفهم العميق لطبيعتها والتي يمكن أن تفسر سر تمسك مؤيديها بها في وجه البدائل والسر يكمن في جوهرها فقوة الرأسمالية والإيمان العميق بها لا يرتبط بالملكية وشكلها وإنما امتلاكها الآلية لتحديد ثمن مستقبلي للنقد الحالي ما يساهم في نمو المجتمع وتوسع ثروته بشكل دائم لا يمكن أن يقدمه أي نموذج آخر مهما تعاطفنا مع البدائل.. ولذا قال أحد المفكرين الغربيين ممن يدركون كنه الرأسمالية أنه من أجل استمرار النمو والتوسع الاقتصادي العالمي لابد من حماية الرأسمالية لتبقى هذه الآلية قادرة على العمل!
المتأمل في تاريخ الرأسمالية يدرك أن المراجعات لم تبرح أدبياتها منذ أن قدم آدم سميث يده الخفية التي اختفت غير مرة لتقوم الحكومة في الاقتصاد بدورها.. ولذا فإن التغيير والتجديد الذي يبحث العالم عنه اليوم ليس إلا جزءاً لا يتجزأ من تطور الرأسمالية وتصحيح مسيرتها.. والحقيقة التي يعرفها الباحثون أن أكثر مساهمات وأطروحات الاقتصاديين تنوعاً بل وتضارباً لا تزال داخل المدرسة الرأسمالية نفسها بل إن الاقتصادي الشهير جون ماينارد كينز والذي أنقذ الرأسمالية في الماضي كان يبدو صاحب آراء متقلبة كما وصفه مخالفوه لكنه كان يبتسم لهكذا تهمة قائلاً: لا أريد أن أبدو كساعة متوقفة لا تكون صحيحة إلا مرتين في اليوم!
هذا المناخ والإرث التاريخي الذي حفلت به الرأسمالية يجعل (التغيير) كقوة مواجهة سلاحاً مشهراً في وجه الأزمات.. وإعادة التشكل داخل المعسكر الرأسمالي اليوم بدت تأخذ ملامحاً جديدة رصدها المفكر البريطاني روبرت ماندل حين قال في خضم الحديث عن سقوط الرأسمالية في الأزمة الحالية: إن ما سيشهده العالم لن يكون سوى تبديل في مراكز القوى وسيكون الثقل الرأسمالي الجديد في المحيط الباسيفيكي..
بعيداً عن من سيحمل لواء الرأسمالية في المستقبل فإن تزامن شعار التغيير الذي طرحه الرئيس الأمريكي الجديد أوباما مع حاجة الرأسمالية ذاتها إلى المراجعة والترميم وتبديل الأدوار سيجعل هذه الكلمة ولاشك تدخل الذاكرة السياسية الدولية ككلمة سر لشكل النظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي سيشهده العالم خلال الفترة القادمة.. هذه الكلمة قد لا نعرف من واقعها اليوم أكثر من أنها العبارة التي قادت الرئيس الجديد باراك أوباما إلى عتبات البيت الأبيض.. لكن تلك الكلمة لم تكن تعبر فقط عن ما تحتاجه أمريكا بقدر ما كانت لغة عالمية قدم العالم نفسه باعتباره الأحوج إليها في ظروف تاريخية، ولذا لم تكن مجرد مصادفة أن تجري ذات الكلمة وذات الشعار على لسان الرئيس الروسي ميدي - رئيس الدولة التي استسلمت لذات العبارة في مطلع تسعينات القرن الماضي - في قمة العشرين الماضية حين أشار في خطابه إلى الحاجة الماسة إلى التغيير في العالم!
الحديث عن التغيير رغم أبعاده العميقة التي تتداولها مراكز الأبحاث والدراسات تم اختزاله في الخطاب الإعلامي الأمريكي بل والعالمي فلم يتجاوز مدلول هذه الكلمة أسوار البيت الأبيض ليتمحور حول شخص الرئيس باراك أوباما فيما يزال المتخصصون والعارفون بالدراسات المستقبلية يترقبونه كصياغة جديدة لعالم ستتغير فيه صورة قطاعات بأكملها وتنظيمات صارمة تعيد صناعة محرك عربة الرأسمالية (القطاع المالي) ورسم جديد لخارطة القوى التي ستتحول فيها رمانة التوازن!
الحاجة إلى التغيير ليست وليدة الفجاءة بقدر ما تمثل التطور الطبيعي في دولاب الرأسمالية الذي قادت الظروف إليه العالم فنضج بحرارة الأزمة الاقتصادية ليكشف عن المنطقة الرخوة في جسد النظام الرأسمالي والتي حددها الرئيس الفرنسي ساركوزي بدقة في هذه المرحلة حين قال: انعدام المسؤولية وراء ما يحدث!
الخائفون من التغيير أو غير الواثقين في مساره لا يخفون مواقفهم في جدهم وهزلهم فليس سراً أن يعلق بعض الساخرين بجدية في الولايات المتحدة حول أن سبب ترشح الرئيس أوباما وتسجيله في الحزب الديمقراطي يكمن في أن الحزب الشيوعي لا يملك عدداً كافياً من المصوتين! هذه الطرفة بغض النظر عن درجة سخريتها تعكس حقيقة أن الخوف من التغيير يكمن في أن تبنيه دون مرجعية واضحة يجعل الصورة في أذهان المتلقين تذهب إلى النقيض تماماً وتحصره في حلول اضطرارية لا مساحة للاختيار فيها. الحالة الذهنية الأمريكية الآن تشهد انعدام التوازن في الفرز الموضوعي للخيارات وموقفها من الأوضاع الاقتصادية الحالية تستدعي الذاكرة بها ما قاله ونستون تشرشل الثعلب الإنجليزي ذات يوم أن الأمريكيين يعملون الأشياء الصحيحة فقط حين يملون من جميع العلاجات التي لا تأتي بنتيجة!
أمريكا التي لم يشعر الأمريكيون إلى أين تتجه منذ سنوات طويلة لم تعد تتحرك بمفردها منذ أن قيدت العالم بسلاسلها الاقتصادية فأضحى الحلم الأمريكي المستند إلى رواية هوراشيوا الجيرا لا يحرك أحلام الأفراد ليحولهم من الفقر إلى الغنى بل توسع فأضحى حلماً يحول النمو من التوسع إلى الانفجار فاستسلم القطاع المالي الأمريكي والذي يمثل أساطينه سدنة الرأسمالية لمنطق الرواية الشعبية الاقتصادية فقادتهم ومن ثم الاقتصاد العالمي إلى الهاوية.. حقائق الاقتصاد تكشف أن الأمة الأمريكية تمول نشاطاتها بعجز فاق كل الحدود فولاية كاليفورنيا وحدها سببت شرخاً في هذا العجز بلغ 15 بليون دولار!
ولذا فإن أمريكا اليوم برمتها تعيش في المستقبل وترفض أن تضبط مؤشر سرعتها مع الحاضر وهذه الحقيقة التي قد يراها البعض نقطة ضعف في العملاق الجريح هي سر وقود أمريكا ومصدر قوتها وتطلعها، لكنها اليوم مصدر المشكلة لأن ثمة منعطفاً خطيراً.. التحليل المستند إلى الواقع يؤكد اليوم أن فرص حماية الرأسمالية من خلال خطاب التغيير وخطة الإنقاذ لا يمكن أن يتجاوز تصحيح أداء الرأسماليين أنفسهم، كما قال الرئيس الأمريكي الحادي والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية حين قال: إن مشكلة الرأسمالية تكمن في جشع الرأسماليين!
الجشع استقر في النظام المصرفي العالمي لتتطور فيه هندسة المشتقات المالية وأدوات توليد الثروة وتوسعها ولذا ليس من قبيل المبالغة ما ذكره أحد المؤرخين للنظام المصرفي حين قال: إن رحلة هذا النظام لم تتغير منذ عصر أيام أل ميدتشي وعصر شايلوك فكلما غرق العالم بالديون ازدهرت أعمال المصرفيين! صحيح أن التزام الحياد التحليلي يبرئ الديون - كوليد تمويلي للتوسع - من المسؤولية لكن الديون اليوم شهدت فوضى خلاقة غير بعيدة عن فوضى السياسة!
أخيراً، فإن الأمر الذي لا ينبغي تجاوزه في زحام الأزمة العالمية وصخب الأسواق وطواحين الخسائر ولم يعره أحد الأهمية التي يستحقها على صعيد المحللين هو تحول القوة الاقتصادية من نيويورك إلى واشنطن في منعطف لا يمكن وصفه بأفضل من سحب الثقة من لاعبي الأسواق وسدنة حريتها إلى البيت الحكومي.. هذا الواقع قد يحمل في طياته ملامح رسم رأسمالية ما بعد الأزمة بعد أن خرجت العقيدة الاقتصادية لها عن قضبان تنظيرها.. ولذا يمكن القول إن وجه الرأسمالية الجديد ستكشف عنه التطبيقات التي ستتبناها السياسة أكثر من الاقتصاد!