أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).. (سورة الإسراء؛ الآية الأولى).
لا أجد حرجاً إذ أعترف أن كثيراً من الوقت مضى بحثاً عن استهلالية تخفف من قلقي وتمتص كثيراً من استيائي، وسبحان الله القائل: (... أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (سورة الرعد؛ الآية 28).
لا تعجب قارئي؛ فالموضوع يتصل بالقدس، وما أدراك ما القدس! والشعور يئن من عذابات الألم وآهات العتب! أما الألم فمبعثه حزني على حبيبة الملايين لما آلت إليه حالها في ظل احتلال صهيوني حاقد انتهك حرمتها وسلب حريتها ونال من عزتها! وأما العتب فعلى أولئك الملايين؛ علينا نحن أبناء الأمتين العربية والإسلامية إذ غدونا أجساداً بلا أرواح، وعروقاً بلا دماء، ورؤوساً بلا معنى، وقلوباً بلا إحساس!
أعتذر للنادي الأدبي بالرياض؛ إذ لم أستطع الخروج من وخز آلامي، فأسجل له كلمة شكر وقدير للمسؤولية الجسيمة التي يحملها على عاتقه تجاه قضايا الأمة وهمومها! مؤكداً أنني استملت دعوته الكريمة عبر رسالتين هاتفيتين - الأولى قبل موعد الندوة بيومين، والثانية صبيحة يوم الندوة، ولاشك أن الآخرين ضمن قائمة التواصل المعتمدة لديه استلموا الدعوة مثلي - لحضور الندوة الثقافية التي أقامها في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم الثلاثاء 8-2- 1430هـ الموافق 3-2-2009م بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009م!
بالطبع ما أن قرأت الرسالة حتى بيّتُّ النية أن أكون في مقر النادي قبل البدء بوقت كاف؛ لأقف إلى جانب مسؤولي النادي الأدبي في استقبال الضيوف؛ ذلك أن موضوع الندوة يضعني - بوصفي مسلماً وعربياً وفلسطينياً - في موقع صاحب البيت، إلا أن ظروف السير حالت دون ذلك، ليس هذا فحسب، بل تأخرت عن بدء الندوة بربع ساعة تقريباً، وانتابني قلق شديد خشية أن يتسبب هذا التأخير في عدم وجود مكان لي داخل القاعة التي حسبت أن تكون ممتلئة بالحشود المتلهفة شوقاً للقدس!
اقتربت من باب القاعة، وهممت بالدخول، وإذا بصديقي الأخ الدكتور حسين المناصرة ينظر إليّ مبتسماً ويومئ لي برأسه كي أجلس في الكرسي الشاغر بجواره وقد كان يجلس في الصف الأول، فبادلته الابتسامة وأسرعت للجلوس كي لا أحدث إرباكاً للحضور أو للمتحدث وهو الدكتور ماهر الكركي؛ المستشار بالسفارة الفلسطينية بالرياض، والذي كان قد بدأ حديثه للتو، وكان يجلس إلى يساره رئيس النادي الأدبي؛ الأستاذ الدكتور سعد البازعي، الذي غادر القاعة بعد أن أبرق بعينيه إلى الدكتور عبدالله الوشمي ليأخذ مكانه في رئاسة الجلسة!
واصل الدكتور ماهر الكركي تقديم ورقته العامرة بالعديد من النشاطات الثقافية التي تخطط السفارة الفلسطينية بالرياض لتنفيذها بهذه المناسبة، وبعد أن أنهى الضيف حديثه، عبّر رئيس الجلسة عن حزنه العميق تجاه قلة عدد الحاضرين، ثم تساءل عن المغزى وهو يقارن بين الحضور لهذا المساء وذاك الحشد الكبير الذي حضر لقاء غزة المفتوح قبل أسبوعين! فالتفتّ إلى الخلف لأقف على حجم المأساة، فالقاعة (فيما عدا الصفين الأول والثاني) فارغة تماماً! وبعد تنهيدة عميقة من رئيس الجلسة أعطى فرصة الحديث للأديبة الفلسطينية الأستاذة سحر الرملاوي، التي رسمت ببعض إبداعاتها جانباً من معاناة الشعب الفلسطيني جراء طرده من أرضه وتشرده في أصقاع المعمورة، لتضيف المزيد من الحزن إلى أجواء عامرة بالأحزان!
في الأثناء سجلت اسمي لمداخلة أعددت لها حول دحض ما تدعيه الصهيونية من آثار لها في القدس؛ فمبكاهم المزعوم إنما هو حائط البراق والقصة معروفة! وهيكل سليمان منهم براء! ومسمى (أورشليم) الذي يتشدقون به ويعتقد الكثيرون أنه عبري النكهة واللهجة إنما هو اسم كنعاني آرامي (عربي) أطلقه العرب على القدس قبل أن يكون لبني إسرائيل لغة، وفترة حكمهم للقدس التي أزعجونا بها لم تدم أكثر من سبعين سنة متواصلة في عهد داود وسليمان عليهما السلام، يضاف إليها الستون عاماً التي مازالت مستمرة والمسلمون نائمون، بالإضافة إلى فترات حكم متقطعة لم تتجاوز أربعمائة سنة! بينما حكم العرب القدس لأكثر من أربعة آلاف ومائة وخمس وستين سنة، وهم الذين أنشؤوها، أما بقية الفترة التي تقرب من ألف وثمانمائة سنة، من عمرها الذي يتجاوز الستة آلاف سنة، فقد كان الحكم فيها لغزاة من الآشوريين والفرس واليونان والرومان والصليبيين، وبذلك يكون الحكم العربي للقدس هو الأصل، أما الوجود العربي في فلسطين فيعود إلى ما قبل ستة آلاف سنة؛ أي قبل أن يهاجر إبراهيم عليه السلام من العراق إلى مصر مروراً بفلسطين والقدس الشريف، أي قبل ظهور الديانة اليهودية بألفين وستمائة سنة! ليس هذا فحسب، بل إن التاريخ يشهد أن القدس ما أصبحت مدينة إلا بعد أن بناها الكنعانيون في بداية العصر البرونزي، والعرب اليبوسيون هم أول من اختط مدينة القدس وبنوها، ومن ثم أطلقوا عليها اسم (يبوس)، ثم عُرفت بعد ذلك ب(أورسالم أو يوروسالم أو أورشليم أو يوروشليم)، وكلها تعني مدينة السلام!
وددت التحدث حول هذا، إلا أن المداخلة الأولى كانت للعتيق الأنيق الرقيق الذي أذاب الأفئدة بحرقته ودمعته في لقاء غزة المفتوح وهو يتحدث عن الجرائم البشعة التي تعرض لها الأهل والأحبة على أيدي الصهاينة الحاقدين وعلى مرأى ومسمع الملايين المخدرين، إنه صاحب الحس المرهف الأديب الكبير الأستاذ عبدالله الشهيل، الذي كفاني والحضور فأفاض علينا من معينه الذي لا ينضب عن فلسطين الأرض والتاريخ، جزاه الله خيراً وأمده بالصحة والعافية.
اللافت في الأمر أن العدد القليل الذي حضر كانت فيه البركة الكبيرة، فجلهم شارك بمداخلات قيمة، لا أستطيع أن أتذكر الأسماء، إلا أن مداخلاتهم ارتسمت داخلي بمداد من نور؛ فهنالك من وضع عدداً من الأهداف التي يجب تحقيقها إن أردنا الانتصار للقدس، ومن بينها تحرير بيت الشرق الفلسطيني، ووقف الحفريات التي تهدد المسجد الأقصى، وإزالة الحواجز التي تمنع المصلين من أداء الصلاة فيه.
أما الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الأنصاري فقد استهل مداخلته بحفيده الذي سيذهب في اليوم التالي للمدرسة وهو يتزين بالكوفية الفلسطينية، مؤكداً أن فلسطين تسكن القلوب، ثم تحدث عن ذكريات رحلته البحثية إلى القدس في عام 1966م؛ أي قبل احتلالها بما يقارب العام.
وأما المداخلة التي مازلت حتى اللحظة أسمع نبرات صوت صاحبها متسائلاً (لم الاستعجال؟) ثم يسرد بإيجاز في حدود الوقت المسموح تاريخ مدينة القدس وما تعرضت له من احتلالات مريرة وطويلة على مر التاريخ، وفي كل مرة كانت تُحرر كاملة غير منقوصة! وكأني به يعبّر عن استغرابه ورفضه لهذه التنازلات التي تُقدم للصهاينة عبر مفاوضات بائسة شيدت المزيد من المستوطنات، وأكلت المزيد من الأرض من خلال جدار الحقد الصهيوني، وحبست أنفاس الشعب وشلت حركته بالحواجز الصهيونية الخانقة، وها هي اليوم تنجح في زرع الشقاق بين أبناء الشعب الواحد؛ إخوة الدم والتاريخ والقضية!
وبينما كنت غارقاً في بحر تساؤلاتي عن أسباب عدم اختيار القدس لتكون أولى عواصم للثقافة العربية، على اعتبار أنها الأقدم، وأنها القبلة الأولى لنبينا العربي (محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-)، ثم لكونها القضية الأولى للأمتين العربية والإسلامية، وليس آخراً لما تتعرض له من عمليات التهويد؟ ثم لماذا هذا العام (2009م) تحديداً، الذي يشهد الانقسام الأخطر على الصعيد الفلسطيني، والتيه الأعظم في ظلمة الخلاف العربي، والاستسلام المذل للسيف المسلط على رقبة الأمة الإسلامية بتهمة الإرهاب الظالمة؟ تساؤلات كثيرة ما كانت لتتوقف لولا أن حان موعد مداخلتي، فجهرت بتساؤلي الذي لم أجد له إجابة، ثم سجلت أمنيتي أن تتواصل احتفالاتنا في هذا العام، فكما احتفلنا بالنصر العظيم الذي تحقق للمقاومة على أرض غزة! لعلنا نحتفل قريباً بعودة اللحمة للشعب الفلسطيني، وبعودة الوحدة للأمة العربية، ومن يدري قد نشهد نصراً آخر يحتفل به المسلمون جميعاً!
انتهت الندوة، وغادرت النادي الأدبي متجهاً إلى البيت، إلا أنني (وجدانياً) عدت لأقف مجدداً أمام مبعث الحزن الأكبر وهو قلة عدد الحاضرين، وهنا دعوني أتساءل بصوت عال، وأرجوكم (بدون زعل)! أين الشباب العربي بمختلف دياناته عن مثل هذه الندوة؟ وأين الشباب المسلم بكل انتماءاته؟ أين أبناء الجالية الفلسطينية؟ أين مسؤولو السفارة الفلسطينية؟ لماذا حضر الكثير منهم بصحبة السفير في لقاء غزة المفتوح؟ وأين استعداد السفارة الفلسطينية لمثل هذا النشاط والنشاط السابق فتكون في استقبال الضيوف؛ تقلدهم الكوفية الفلسطينية، وتوزع عليهم بعض الصور والمطبوعات التعريفية عن مدينة القدس؟
لا بأس يا قدس، لا بأس أيتها الغالية، فداك روحي لا تحزني!
لا بأس يا حبيبة الملايين، فهذه الحال من الاضطراب واليأس، والعبوس والبؤس، والهوان والذل، والضياع والعجز، (بإذن الله) لن تدوم، فشعبك الجبار سيفيق حتماً من غفلته، سيزيل عنه غبار الخنوع الذي يكتم أنفاسه، وسيهب هبة واحدة بكل أطيافه، ودون تمييز بين صاحبة الرصاصة الأولى؛ العفيفة النظيفة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وشقيقاتها الأخرى وعلى رأسها صاحبة الرأس المرفوعة؛ قائدة نصر غزة؛ حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحينئذٍ ستستجيب أمتك لنبض العروق وأصالة المعتقد وأمجاد السلف! وسيسجل التاريخ (بإذن الله) تفاصيل نصرٍ يُرفع فيه علم فلسطين على الأرض الفلسطينية كلها وعنوانها أنت يا قدس، ويعاد فيه للشعب حقوقه كلها؛ وفي مقدمتها حق العودة. يرونه بعيداً ونراه (بعون الله) قريباً!
كاتب فلسطيني - الرياض
aaajoudeh@hotmail.com