هاتفتني صديقة تسألني إن كنت أتيح فرصة لابنها ليحدثني قليلا، فأكدت لها، لكنه تردد لأيام ثم جاءني صوته يتلجلج إلى أن اطمأن فأفضى بما لديه، استمعت إليه وأنا أتابع نبراته, وتراكيب جمله، وقدرته على التركيز في طرح أفكاره، أتلمس سعة أفقه، ثقافته، منطقه، مفاهيمه عما يتحدث، حجته في رفض أو قبول ما يتحدث عنه، فكل هذه مؤشرات للتعرف على ما يمكن الحوار فيه أو إزجاء النصيحة العابرة له..
وجدته تركيبة من نتاج البيت، والمدرسة, والوسائل المباشرة، والخفية التي غالبا ما يكون لها تأثيرها في تركيبة مكنون فكر الفرد، ومن ثم القناعات أو المرفوضات عنده، وفيهما تلك المواقف التي يتخذها الإنسان قبولاً بها أو رفضا لها..
كانت محادثة تشرع الكثير من الأبواب أمام المربين, وأهل العلم والتعليم، والإعلام ومسؤولي الثقافة والقائمين بشؤون الناشئة, بمن فيهم مراكز الصحة والتأهيل والتدريب والرياضة والمكتبات ومنتديات الأدب، وكل مكان يمكن أن يستقطب فئات الطامحين الذين يقفون أمام الشمس ولا يرغبون في التواري خلف ظلالها غاربة..
كان مما قاله: (نذهب إلى المدرسة، أكثر الذي نتلقاه معارف تضمها الكتب المدرسية، لا تشوقنا لأبعد منها, وليتهم لا يسلموننا كتبا مقررة لكل مادة دراسية؛ ذلك لأننا نريدهم حين يقفون في زمن كل حصة دراسية أمامنا يجذبوننا لمعرفة شيء جديد، أما وإن الكتب بين أيدينا فإنها تميت لحظة المفاجأة، ثم نمضي اليوم هكذا في أوجه بعضنا ورتابة جرس فاصل ينبئنا بانتهاء حصة وبدء أخرى, حتى الركن الصغير الملحق بالمدرسة نبتاع منه الحلوى والفطائر والماء لا نجد فيه كتابا واحدا نبتاعه ونضيفه لرصيد خبراتنا, لذلك تذهب طاقاتنا في (الجدل) أو التنفيس بالمضاربات الحامية، ونبدأ في تصنيف معلمينا وتتحول وقفاتنا في الفسحة أو عند الذهاب لفرق متصارعة، بعضنا صراعهم حول فرق كرة القدم، وآخرون حول معلمينا، بصراحة يا سيدتي الوالدة لا أشعر بشوق للمدرسة أبدا، حتى الأنشطة فيها مكررة ومعدومة التأثير, أما الشارع خارج أسوار المدرسة، يزيدنا رهقا وهمّا، فشوارع المدارس تضيق بما فيها، كما فيها من القدرة على إضاعة زمن من وقتنا حتى ننفك من مشنقتها لننطلق لبيوتنا, وهناك في البيوت لي زملاء يشكون كثيراً من أنهم لا يرون آباءهم لأيام كثيرة، أما أمهات أكثرهن هاربات إما مع الصاحبات أو زميلات العمل أو في الأسواق أو عيادات التجميل، أو في النوم أو محادثات صديقاتهن في الهاتف أو داخل المطابخ..).
استأذنني أن يهاتفني مرة أخرى ليواصل..
فاستأذنته أن يكون معنا القراء, فالذي يقول أهم بكثير مما يتلهى عنه غالبية الناس بما فيها الإجابة عن أسئلة (جورج قرداحي لمن يشكو من تدخل حماته في حياته)، فالملايين التي يمنيهم بها ذاهبة هباء من جيوبهم قيمة لمكالماتهم التي يودعون فيها اعترافاتهم.. بينما الأبناء هم الحصاد وهم الثروة.. لكنه لم ينس أن يقول: (هذه ليست همومي وحدي يا سيدتي الوالدة، إنني حصدتها من أبناء جيلي، شجعتني أمي أن أنقلها لك)..
فشاركونا..
(سنواصل).