كتاب الله العظيم منهجاً كاملاً وشافياً في الوسطية، والكشف عن معالمه يعد من الأمور الضرورية والملحة، ولا سيما في الظروف الراهنة التي بلغت خطورة بالغة طالت الأمة الإسلامية والعالم بأسره بسبب خروج بعض الناس عن منهج القرآن الكريم أو البعد عنه، والتأثر بالأفكار المنحرفة والهدامة والسير وراء كل ناعق؛ فأفرز ذلك خروجاً عن طاعة ولي الأمر وسعياً في الأرض فساداً وقتل النفس المعصومة، وغير ذلك من التبعات المخالفة لمنهج الوسطية منهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وإذا كان من عادة القرآن في روافد البناء التحذير مما يعوقه، وحمايته مما يهدمه، وصيانته مما يقلل من قيمته فإن معالجة القرآن لما يخرج ذلكم البناء عن حد الاعتدال قد حوت حيزاً كبيراً من آياته.
والحق أن القرآن العظيم قد زود نظامه الأخلاقي بقاعدة تربوية غاية في الكمال، وقد انتظم في هذه القاعدة جملة من الوسائل الكفيلة بتفعيل التعاليم الأخلاقية، وإيجاد العلاج والحلول المناسبة لكل انحراف أو تسيب في الأخلاق، ومعنى هذا أنها ذات طابع إصلاحي ودعوي؛ فالحاجة إلى إبرازها وإعمالها ضرورة اجتماعية.
ويعد الجانب التربوي الاجتماعي أحد أهم أسس الوسطية؛ فقد جعل الإسلام رابطة الدين الجامعة المعتبرة، ودعا الناس إلى اتباعها ليكونوا أمة واحدة تجمعها وحدة الاعتقاد والتفكير والعمل الصالح؛ فأمر بإقامة الدين كما في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، وقد أبان الله - تبارك وتعالى - أن مراده الاجتماع تحت شريعة الإسلام؛ إذ يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)، وحبل الله هو الإسلام.
وكما عُني الإسلام بتأسيس هذه الجامعة وتسهيل الدخول إليها وتكثير سواد أتباعها حاطها بسياج منيع من أن يجد معول الهدم إليها سبيلاً؛ فجعل لها نظماً تضبط تصرفات الناس في معاملاتهم وتدابير تذود عنهم أسباب الاختلال وتقيها من الانحلال، وذلك ما سنشير إلى شيء من ملامحه - على وجه الإيجاز - فيما يلي:
ولقد عُني القرآن الكريم بموضوع التسامح عناية فائقة؛ فنوه به؛ ليتمثله أهل الإسلام ولينبذوا ما ينافيه، وعده من خصائص دين الإسلام؛ فقال جل شأنه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقال في صاحب الرسالة وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)، وقال في أصحابه وأتباعه: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
ولذلك اعتبر القرآن المؤمنين إخوة، ووصفهم بهذا الوصف إشاعةً لخلق التسامح فيما بينهم؛ فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، ثم إن وصف الأخوة يستدعي أن تبث بين الموصوفين به خلال الاتحاد والإنصاف والمواساة والمحبة والصلة والنصح وحسن المعاملة فيتقبلها جميع الأمة بالصدر الرحب، سواء في ذلك الشريف والمشروف والقوي والضعيف، فإذا ارتاضت نفوس الأمة على التخلق بالأخوة بينهم سهلت على الشريعة سياستهم، وإنما ترتاض النفوس على الأخوة بتكرير غرسها فيها، وبتأكيد الدعوة إليها واجتثاث ما ينافيها.
ولم يقتصر القرآن الكريم على إشاعة هذا الخلق فيما بين المسلمين، بل جعله عاماً بين الناس جميعاً؛ فلذلك يحق لنا أن نقول إن التسامح من خصائص دين الإسلام وهو أشهر مميزاته، وإنه من النعم التي أنعم بها على أضداده وأعدائه وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقررة بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وشواهد القرآن الكريم على ذلك كثيرة جداً، منها قوله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، وقوله سبحانه: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وقد تمثل هذه الآية الإمام الجليل إسماعيل بن إسحاق القاضي؛ إذ دخل عليه ذمي فأكرمه؛ فوجد عليه الحاضرون، فتلا هذه الآية عليهم.
وخلق التسامح أحد الأخلاق التي حرص القرآن الكريم على ترسيخها؛ فلذلك نجد تقريره في الآيات المكية والمدنية، ومن الآيات المكية قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وفيها يقول الإمام الكبير جعفر الصادق: (أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذه الآية من جماع الأخلاق الكريمة؛ فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير ما يحب أو ما يكره؛ فأمر أن يأخذ منهم ما يحب وما سمحوا به، ولا يطالبهم بزيادة، وإذا فعلوا ما يكره أعرض عنهم، وأما هو فيأمرهم بالعرف، وهذا باب واسع). ومن الآيات المدنية قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
فلا جرم أن التسامح وما يدور في فلكه من الاتحاد والإنصاف والمواساة والمحبة والصلة والنصح وحسن المعاملة من الأخلاق الاجتماعية التي تحتاج إلى تربية وتنشئة، ولقد تكفل القرآن الكريم ببيانها بياناً شافياً أوضح الله فيه المحجة للأمة، وجعله نظاماً اجتماعياً حضارياً للعالمين.
وأرسى القرآن الكريم مفاهيم السلام في سور عديدة وآيات كثيرة؛ حتى أصبح السلام السمة البارزة لهذا الدين، ليس في حال السلم فحسب، بل في الحرب ومع الأعداء؛ لأن هذا الدين يحرص على كسب أعدائه ودعوتهم إلى السلم بدلاً من مخاصمتهم، ولأن دين الإسلام جاء لهداية الناس كافة إلى سبيل الله تعالى، فمقصده التآلف ودفع التنازع ونشر السلام في أرجاء العالم، وذلك ما دلت عليه الآيات الكثيرة التي تضمنت مادة (سلم) وما في معناها من الأمن والإصلاح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، وقال عن منهج هذا القرآن العظيم ورسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وقال جل شأنه في سياق آيات القتال: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)؛ فأمر الله المسلمين بألا يأنفوا من السلم، وأن يوافقوا مَن سأله منهم؛ لأنه أصل منهج الرسالة الخاتمة.
عادةُ القرآن في روافد البناء التحذير مما يهدمه؛ لذلك جاءت الآيات الكثيرة موجهةً إلى لزوم الجماعة وطاعة ولاة الأمر ومشددةً النهي عن الاختلاف ومفارقة الجماعة، ومن الآيات الواردة في ذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، وقوله سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقوله سبحانه (وَلاَ تَفَرَّقُواْ) في الآية المذكورة تأكيد لما تضمنه الأمر بالاعتصام، والتذكير بنعمة الله فيها اشتمل على تصوير لحالة الناس التي كانوا عليها قبل الرسالة المحمدية، وفيه تنفير من العودة إلى تلك الحالة الشنيعة بعد أن أفاء الله عليهم بنعمة الإسلام الذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وذلك حث على إجابة أمره تعالى لهم بالاتفاق.
* قسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بالرياض