استحضرتُ - في ذهني - بعض المواقف الإنسانية لمؤسس مملكة الإنسانية الملك عبدالعزيز - رحمه الله - خلال ما تناقلته وسائل الإعلام المحلية والعربية إشادةً بكلمة خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت الأخيرة، والتي حملت في طياتها مضامين عدة، سياسية واقتصادية وإنسانية, وذلك بالتزامن مع فوزه - حفظه الله - بالجائزة الدولية لمكافحة الفقر.
فالدور الإنساني لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليس وليداً بل موروث خلفه الملك عبدالعزيز لأبنائه مع فارق المعطيات الزمنية والدولية والإقليمية؛ فالعناية بالضعيف والفقير والمظلوم نهج رسمه الملك عبدالعزيز وحفظه أولاده جيداً.
فهذا موقف فيه العظمة وفيه الانتصار على النفس وفيه التسامح حتى مع خصومه - رحمه الله - وإن كان الزمان في خضم معركة ما أو بعدها مباشرة وقبل أن يجف الدم.. فبعيد خروجه - رحمه الله - من معركة السبلة (1347هـ) وما خلفت من أحداث معروفة.. كما جاء في كتاب (لسراة الليل هتف الصباح) للشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري - بتوسع -، وكتاب (تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان) للشيخ إبراهيم بن عبيد أحد علماء أهل القصيم.
فلما وصل الملك عبدالعزيز إلى شقراء فإذا ببدوي أعرج فقير حاف، يعدو وراء جيش الملك عبدالعزيز ويصرخ: أوقف مطيتك يا عبدالعزيز، رجل فقير مظلوم لا تتركني لغيرك!!
فهو في ذلك يفضل سيادة الملك عبدالعزيز عليه رغم كونه من خصومه، فلما وصل إلى الملك أوقف مطيته، وحين وقف البدوي تحتها والملك عبدالعزيز مستو على ظهرها يريد أن يسمع من الرجل الذي ملأ المعسكر صراخاً، ما كان من هذا البدوي إلا أن قال: يا عبدالعزيز.. اتق الله!! الكبرياء له سبحانه، أنت مثلي رجل مخلوق ضعيف لعظمة الله وجلاله، لا تنظر إليَّ من فوق ظهر مطيتك؛ فهذا لا يجوز! تواضع!! لقد نصرك الله بالأمس فأعطه حقه من الشكر!!
فأناخ الملك عبدالعزيز ذلوله ونزل إلى الأرض ثم مد يده وصافحه قائلاً: مرحباً بك يا أخ.. ما أمرتني إلا بخير، ما اسمك؟ قال: مطلق، قال: من أي القوم أنت؟ قال: من القوم الإخوان الذين قاتلوك بالأمس - وهنا اليقين بعدالة الملك عبدالعزيز - قال: ما مظلمتك؟ قال: لقد اقتطع أمير (الدوادمي) أفضل الأرض المشاعة بين المسلمين لإبله ومنعهم من الرعي فيها، وحين دخلها جملي صادره ووضع وسمه عليه، وقد طلبت منه أن يتقي الله، ولكنه طردني!! فربت الملك عبدالعزيز على كتفه وطلب ورقة - والناس يرون مشهداً فيه عشرات الألوف يسمعون -، فكتب على الورقة: من عبدالعزيز إلى أمير (الدوادمي).. أعد لمطلق جمله وأعطه من جمالك جملاً نكالاً لك على ظلمك له، وحذارِ أن يتكرر منك هذا مع أحد من المسلمين!!
هنا درس وتوجيه إداري للمسؤول (لا تكرر). وناول مطلقاً الورقة ثم ركب مطيته، وعندما تحرك الجيش والملك عبدالعزيز في مقدمته لحق به هذا الرجل مرةً ثانيةً، وصاح: ريّض يا عبدالعزيز (تقول العامة ريض أي قف)، ثم وقف، وقال: انتهيت مني يا مطلق، الله يهديك!! قال: خطك ما فيه (رشمة)؛ أي ختم، قال: أمير الدوادمي يعرف خطي؛ فأصرَّ البدوي على الختم قائلاً: لا، أعطني ختمك؛ فجاءوا للملك عبدالعزيز بحبر؛ فختم الكتاب، ثم مشى؛ فدعا له البدوي المظلوم.
هذه صورة جسدت الإحساس بالمسؤولية بين الرجل الكبير والرجل البسيط، وفيها أبعاد إنسانية رائدة منها العفو؛ فهو سيد الخُلُق، وكذلك التواضع الجم، بين ملك وفقير أعرج.
سليمان بن صالح العجلان