«الجزيرة» - عبدالرحمن السريع
ألقى الدكتور زيد بن عبدالمحسن آل حسين نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان ورئيس وفد المملكة العربية السعودية المشارك في مناقشة التقرير التي تقدمت به المملكة خلال المؤتمر الدولي الذي يعقد حالياً بمقر هيئة الأمم المتحدة بجنيف كلمة أوضح فيها أن المملكة يسعدها المشاركة في عملية المراجعة الدورية العالمية لحقوق الإنسان.
وقال: أود أن أشير إلى أن المملكة العربية السعودية ليست دولة إسلامية فحسب، وإنما هي مهد الإسلام وحضارته، وأرض الحرمين الشريفين اللذين هما موئل قلوب المسلمين أينما كانوا في أنحاء المعمورة، مما يُحتّم عليها رعاية الإسلام، وإقامة شعائره، وخدمة مقدساته.
ومن هذا المنظور فإن مبادئ عملية المراجعة الدورية العالمية لحقوق الإنسان تلتقي ومبادئ عقيدتنا، ومن بينها أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) سورة المائدة، وكذلك أمره تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(3) سورة العصر.
فعملية المراجعة الدورية الشاملة تتوافق مع توجيه الإسلام من منطلق محاسبة الذات لأنها عملية تقويم ذاتي ووسيلة صحيحة لتقديم تصور حقيقي يساعد الدول في تقييم حالة حقوق الإنسان فيها، وقد تمت عملية إعداد التقرير حسب المبادئ التوجيهية للمراجعة الدورية الشاملة، حيث تم التعريف بها من خلال كتيِّب إرشادي أعدته هيئة حقوق الإنسان من أجل سهولة الوصول إلى المعلومات الصحيحة والدقيقة والمشاركة الفاعلة، وتم توزيعه على جميع الجهات وذوي الصلة، كما قامت وسائل الإعلام المختلفة بتغطية ذلك من خلال الندوات واللقاءات، وقد تم إشراك جميع الجهات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في المملكة في عملية الإعداد وتمثلت مشاركتها في توفير المعلومات ومناقشتها في الاجتماعات المتتالية، التي دُعيت إليها مؤسسات المجتمع المدني من جميع أنحاء المملكة، وقد نُوقش التقرير في عدة جلسات مع هذه الجهات والمؤسسات شارك فيها عدد كبير من النساء، ونُشر بعد ذلك في موقع الهيئة الإلكتروني، مع طلب إبداء الملاحظات عليه.
وأضاف: معروض أمامكم تقرير المملكة، وما أريد أن أتناوله خلال عرضي هذا يتجاوز ما في تقريرنا من معلومات، ويمتد لخلفياتها الأكثر عمقاً وشمولاً، وهي خلفيات ضرورية تسهل قراءة التقرير على شكل يعكس حقيقة المملكة ثقافةً وتاريخاً. ومن أهم خصوصيات المملكة تلك النقلة المجتمعية من مجتمع قبلي تسوده النزاعات، وأقاليمه مشتتة، حيث كانت تعيش حياة العزلة وأنواعاً من التأخر الاقتصادي والتربوي ولم يكن التعليم يحظى بقدر كبير من الإقبال بل كان تعليم المرأة مرفوضاً، حتى وصلت إلى مرحلة متقدمة في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تفوق من نواح كثيرة العديد من دول العالم.
وسوف أسعى من خلال عرض هذه الخلفيات إلى استباق تساؤلات ربما تدور في أذهان البعض حول سبل تطوير وتعزيز وحماية حقوق الإنسان في المملكة، وهي تساؤلات موضوعية تقع في قلب اهتماماتنا وتحتل صدارة أولوياتنا.
المسألة الأولى التي أود أن أتناولها هي أن مفهوم الخصوصيات الدينية والثقافية والحضارية أصبح ذا مدلول سلبي في فهم بعض دوائر حقوق الإنسان ومنظماته، ودعوني أقول صادقاً إنني أتفهم بل وأحترم دوافع الكثيرين حين يشككون في مفهوم الخصوصيات الدينية والثقافية إذا كان المقصود به إنكار ما عُلم من حقوق الإنسان بالضرورة أو التراجع عن ثوابتها المقررة دولياً، ودعوني هنا أبادركم بتأكيد أَزِنُ كلماته بكل دقَّة.
إن الخصوصيات الدينية في حقيقة الإسلام وليس في واقعنا كمسلمين هي خصوصيات تضيف إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان ولا تنتقص منها.
ومن الأمثلة التي تساعد على تقريب ذلك المدلول (حلف الفضول)، وهو معاهدة أبرمتها قبائل العرب فيما بينها قبل الإسلام؛ تعاهدوا فيها أن لا يجدوا مظلوماً إلا وينصرونه، وأن ترد الفضول لأهلها.
وهذا يأتي في سياق ومدلول ما نسميه اليوم (القانون الدولي الإنساني)، وقد سُئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن هذا الحلف فقال: (هذا حلفٌ لو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت)، والمعنى العميق والدلالة البالغة هنا أننا في المملكة لسنا منغلقين على أنفسنا قط، وإنما نستمد قيمنا أيضاً من كافة المصادر ما دامت تستلهم ذات المقاصد في شريعتنا الإسلامية، وهو بذاته نفس معنى الحكمة المأثورة (الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها أخذها).
كل هذا يعلمنا أو ينبغي أن يعلمنا أن الحكمة لا وطن لها وليست حكراً على أحد، وأن الانغلاق على النفس يناقض جوهر الإسلام، وأن عالمية هذا الدين ليست فقط فيما يعطيه للآخرين، وإنما أيضاً فيما يقبل أن يأخذه منهم.
وهذا ما يسوّغ التنوع الثقافي والتعدد الحضاري، وهو يأتي تأكيداً لما قرره المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو في عام 1966م بأن لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامها والمحافظة عليها، وأن هذه الثقافات مهما تعددت تعتبر تنوعاً خصباً وتمثل جزءاً من التراث الذي يشترك في ملكيته جميع البشر.
وقال الدكتور آل حسين: ثانياً يخطئ الكثيرون - وإن كان لهم في ذلك عذر - عندما يظنون أن المملكة تستند على الواجبات أكثر مما تعترف بالحقوق، بحكم استنادها على الشرع الإسلامي دستوراً لها، فالعكس هو الصحيح، لأن الحقوق في الإسلام لا تقتصر على حقوق العباد فقط؛ وإنما تمتد إلى حقوق الله، وإن التقصير في حق الله أيسر استدراكاً من انتهاك حقوق العباد، والدليل على ذلك أن الذنب في حق الله يُغفر بمجرد التوبة الصادقة، بينما شروط التوبة عند انتهاك حقوق العباد - التي هي بذاتها حقوق الإنسان - تتضمن إعادة الحق لصاحبه والعفو منه، وجبر الضرر لمن انتهكت حقوقهم ورضائهم بذلك.
وإضافة إلى حقوق العباد على إطلاقها فقد اختصت الشريعة الإسلامية طوائف من العباد برعاية خاصة لحقوقهم لأن أصحاب هذه الحقوق أكثر تعرضاً لانتهاك حقوقهم من غيرهم وهذا هو مفهوم (Vulnerable Groups)، وهذا ينطبق في الإسلام على الأقليات من المسلمين وغيرهم وقاعدة ذلك ما نص عليه رسول الإسلام حينما قال: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
أعلم أن من المدافعين عن حقوق الإنسان من يرفض اعتبار المرأة من الطوائف الأكثر عرضة لانتهاك حقوقها (Vulnerable Groups)، ولكن للأسف فإن هذه هي الحقيقة في مجتمعات كثيرة، ولذلك اختصت الشريعة الإسلامية حقوق المرأة بتفصيل دقيق لن أتطرق إليه الآن.
ونحن نعترف بوجود تجاوزات ناتجة عن ممارسات فردية، وكثير من هذه التجاوزات تندرج في إطار العنف الأسري، ساهم في وجودها خلطٌ بين العادات والتقاليد وحقيقة الشريعة الإسلامية؛ فمفهوم القوامة - مثلاً - كثيراً ما يتحول في الممارسات من المسؤولية والرعاية إلى معنى التسلط والقهر، فهناك من يضرب أبناءه إلى درجة الإيذاء وهو في اعتقاده أنه يربيهم، وهناك من يمنع زوجته من التصرف في شؤونها وشؤون أطفالها بحرية، وهناك من يتركها بلا نفقة.. وغير ذلك من التجاوزات التي تقوم الدولة بالتصدي لها باستمرار بدءاً من توعية المجتمع حتى إنزال العقوبات الرادعة بحق من يرتكبها.
ومع ذلك فإن وعي المرأة بحقوقها قد تضاعف في السنوات الأخيرة بفضل التطور الهائل في التعليم، ومن خلال مراكز التنمية الاجتماعية، والجمعيات النسائية، والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان التي تبنت نشر وتعزيز الثقافة الحقوقية بشكل عام وحقوق المرأة بشكل خاص، وغير ذلك من المؤسسات العديدة التي لازالت تقوم بدور رائد في هذا الأمر.
وقد تم خلال العامين الأخيرين إنجاز الكثير من الجهود الرامية إلى تعزيز حقوق الطفل والمرأة وتفعيل دور الأسرة في المجتمع باعتبارها المحرك الأساس لثقافة المجتمع ومن أهم هذه الإنجازات ما يلي:
- تنفيذ آليات مكافحة العنف الأسري وإصدار نظام الحماية من الإيذاء.
- وضع إستراتيجية الطفولة وإصدار نظام حماية الطفل.
- إصدار وتنفيذ نظام المعوقين.
- إصدار قرار فتح حضانات لأبناء العاملات.
- رفع مستوى الإعانات المقدمة للفئات المختلفة تجاوباً مع الأزمة الاقتصادية العالمية ومنها مخصصات الضمان الاجتماعي، وإعانات المعوقين والأيتام بنسبة 100%.
- البدء في تنفيذ المحاكم الأسرية ولجان إصلاح ذات البين.
- البدء في تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمعالجة الفقر.
- إنشاء دور جديدة مخصصة لإيواء الفتيات اللاتي يتعرضن للعنف الأسري.
- إيجاد شرطة أسرية يكون عملها مقتصراً على العنف الأسري دون سواه.
- سن نظام يجرّم العنف الأسري بكافة أشكاله، سيصدر قريباً.
- سن نظام خاص بدور رعاية المرأة، سيصدر قريباً.
وبالنسبة للقضاء، فقد خضع نظام الإجراءات الجزائية لمراجعة شاملة بعد صدور نظام القضاء الجديد، حتى تتسق أحكامه مع مزيد من استقلال القضاة، وتقنين الإجراءات أمام محاكم الاستئناف، والمحكمة العليا، ليكون التقاضي على درجتين، وإخضاع الأحكام لمراجعة أعلى درجة تقوم بها دوائر متخصصة. وكذلك التوكيد على أصل البراءة المفترضة في المتهم.
وقد أُخذت بعين الاعتبار توصيات المقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين خلال زيارته للمملكة في الفترة 20 - 27 أكتوبر 2002م، كما أن المملكة في حرصها على حماية الأمن تحرص في نفس الوقت على التوازن بين مقتضيات مكافحة الإرهاب واحترام حقوق الإنسان، وقد أقرت في هذا الصدد مبدءاً متقدماً هو التعويض عن الأخطاء التي قد ترتبط بعمليات مكافحة الإرهاب مثل الاحتجاز الذي يثبت بعده براءة المحتجزين، ولعل أقرب الشواهد أحدث حكم أصدره ديوان المظالم منذ أسبوعين، والذي قضى بإلزام وزارة الداخلية دفع تعويض مقداره (مليوني ريال سعودي) لأحد السجناء بعد ثبوت براءته، وقد بلغت مبالغ التعويضات على المحتجزين في قضايا إرهابية بعد ثبوت براءتهم منذ بداية مشكلة الإرهاب في المملكة حتى نهاية عام 2008م ما يقارب (مائة مليون دولار).
وقال نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان بالمملكة: إن مسار النهوض بحقوق الإنسان ليس سهلاً وليس هناك حدود لاكتماله لأنها ذات أفق واسع، وهي تمثل حركة مستمرة ومترابطة مما يجعلها تتطلب إيجاد آليات فاعلة لتقوم بمهامها بشكل مستقل ومنظم، وفي المملكة أكثر من (ألف) من مؤسسات المجتمع المدني الأخرى التي ترتبط بشكل أو آخر بمسائل حقوق الإنسان وحمايتها، وقد أقر مجلس الشورى بعد تقديم تقريرنا هذا قانوناً يُنظِّم عمل هذه المؤسسات ويضمن لها ممارسة مهامها باستقلالية، ويحول دون استغلالها فيما يتعارض مع أهدافها حمايةً من أي اختراق إرهابي، وقد دُرس هذا القانون في ضوء المتغيرات العالمية وما يصاحبها من حركات عنف وإرهاب، ورغبةً في تطوير هذه المؤسسات وزيادة عددها على أساس يستند على معايير أهمها:
- كفالة النظام الأساس للحكم حرية العمل الأهلي.
- التوازن بين الحقوق والواجبات.
- مراعاة أن تكون جميع القيود المفروضة متوافقة مع النظام العام والقوانين العامة كما أنها متوافقة مع الالتزامات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
وأضاف: إن الحقوق في الإسلام تُسْتقى من القرآن الكريم والسنة النبوية المُشرَّفة اللذين هما مصدر كل تشريع وطريقة حياة شاملة في المملكة العربية السعودية، والحقوق في الإسلام لها أبعادٌ كثيرة سبقت ما حددته الصكوك الدولية في مجال حقوق الإنسان، والأمثلة على هذا كثيرة ورغبةً في الاختصار أود أن أذكر مثالاً واحداً وهو أن الإسلام أكد على أهمية الحفاظ على البيئة باعتبارها أحد الحقوق الأساسية التي يجب أن يراعيها الإنسان، حيث إن مفهوم الاستخلاف الذي جعله الله للإنسان {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(30) سورة البقرة، لا يعني علاقة المالك بالمملوك، وإنما يعني علاقة الأمين بما أُؤتمن عليه، والأدلة على وجوب الحفاظ على البيئة كثيرة منها قول الله تعالى {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(74) سورة الأعراف، وتعاليم الرسول لجيوشه عندما كانت تحمي دولته حينما قال: (لا تقتلن امرأة، ولا صغيراً رضيعاً، ولا كبيراً فانياً، ولا تحرقن نخلاً، ولا تقلعن شجراً، ولا تهدموا بيوتاً)، بجانب قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فلا يتركها حتى يغرسها).
هذه المواقف توضح اهتمام المملكة بهذا الحق الذي توليه اهتماماً بالغاً، وجاء التقرير ليوضح بعض هذه الجهود الكثيرة والمتنوعة.
وقال: لإيماننا الراسخ بأن حقوق الإنسان يجب أن يضل احترامها ملازماً للإنسان منذ نشأته، فقد اعتمدنا خططاً واعدة للتربية على حقوق الإنسان لأن التنشئة عليها والتوعية بها هي الضمان الحقيقي للممارسة الصحيحة، ومن هذه الخطط اعتماد برنامج توعوي شامل ترعاه هيئة حقوق الإنسان وتشارك فيه جميع أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع، سيعمل به قريباً في المملكة، كما ضمنت مفاهيم ومعايير حقوق الإنسان في مناهج التعليم في كل مراحله وأصبح هناك مقررات تُدرَّس، وتشهد المملكة الآن حراكاً إيجابياً تنعكس آثاره بشكل واضح على جميع أفراد المجتمع ومؤسساته، حيث تم تشكيل أكثر من (82) لجنة تُعنى بنشر وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان تابعة لوزارة التربية والتعليم في جميع مناطق المملكة، وقد نشطت وسائل الإعلام في تناول هذا الطرح بغية انتشار هذه الثقافة وانعكاسها على حياة الناس جميعاً.
وأضاف: إن المملكة لا تخلو من بعض مظاهر تفسر على أنها شكل من أشكال الاتجار بالبشر شأنها في ذلك شأن دول العالم، كبيع تأشيرات العمل، وتأخر رواتب بعض العاملين في بعض المؤسسات، وتهريب الأطفال من الحدود لاستغلالهم في ما يسمّى بالتسوَّل.
وجهود حكومة المملكة العربية السعودية واضحة وصارمة لمكافحة مثل هذه الانتهاكات، وقد تم عقد العديد من الندوات والدورات التدريبية بالتعاون مع جهات مختلفة محلية ودولية، وقد تُوجت هذه الجهود بنظام مكافحة الاتجار بالبشر الذي يستأصل أي محاولة للاتجار بالبشر وكان من بين مواده عقوبات صارمة لمن ينتهك حقوق العمالة تصل إلى السجن لمدة (15) عاماً مع غرامة مالية تصل إلى مليون ريال، وقد رُفع إلى مجلس الوزراء بعد أن أقرَّه مجلس الشورى قبل شهر، وسيتم صدوره قريباً.
وقال: أعلم أن الممارسات الفردية في حياة معظم المسلمين لا تعكس دائماً حقيقة الإسلام وجوهره، وأنه لازال هناك الكثير مما ينبغي عمله حتى نصل إلى مستوى شريعتنا من حيث تعزيز وحماية حقوق الإنسان، ولهذا فإننا لا ندَّعي الكمال، كما أننا لا نرفض النقد وإنما نرحب به، عندما يكون موضوعياً، وهدفه الحرص على الإنسان وكرامته، كما نعتبره إحدى أدواتنا في تطوير سياساتنا ومؤسساتنا بشكل يستفيد من تجارب الآخرين ويتفاعل معها.
ودعوني أبدأ بمثال محدد أثق أنه سيكون محلاً لبعض أسئلتكم التي نرحب بها، ألا وهو الوضع القانوني لهيئة حقوق الإنسان التي أَشْرفُ بالعمل فيها.
ما أود تسجيله هنا بكل أمانة هو أننا ما زلنا حديثي العهد بمؤسسات حقوق الإنسان في شكلها المعاصر، رغم ممارستنا لها دون أن نسميها كذلك، كما أن المركزية ما تزال أحد أهم ملامح نظمنا الإدارية بالإضافة إلى أن دور الدولة والحكومة في نظمنا السياسية ما يزال دوراً أوسع منه نطاقاً عن نظم سياسية أخرى.
كل هذه العوامل جعلت مظنَّة التغيير وخلق ثقافة حقوق الإنسان وتطوير سياسات أجهزة الدولة صوب المزيد من احترام حقوق الإنسان أكثر تحققاً وأوفر حظاً كلما كانت مؤسسات حقوق الإنسان قريبة من مراكز اتخاذ القرار وليست مستقلة عنها.
أعلم أنه ليس من المقبول أن يجتمع الخصم والحكم في طرف واحد إن صح التعبير، ومع ذلك يمكن أن أقول إنه بالرجوع إلى مبادئ باريس المتعلقة بالمؤسسات الوطنية التي تُعنى بحقوق الإنسان، نجد أن الهيئة تنسجم انسجاماً قوياً مع هذه المبادئ وتحقق أهدافها في حدود خصوصياتنا كما هو موضح في التقرير، فهي تتلقى الشكاوى المتعلقة بحقوق الإنسان وتتخذ الإجراءات النظامية بشأنها، وتضع السياسة العامة لتنمية التوعية بحقوق الإنسان، وتقوم بزيارة السجون دون إذن، كما أنها ذات ميزانية مستقلة، ويقبل نظامها الهبات والوصايا، وتقدم تقريرها عن حالة حقوق الإنسان كل عام بجانب المسؤوليات والواجبات الأخرى، ومع ذلك فهي في بداية طريق طويل وشاق وفي مرحلة ستتطور مع الممارسة، ورغم هذه البداية القصيرة فقد كان لها الأثر الواضح مما أظهره التقرير المعروض بين أيديكم.
المثال الثاني الذي أود أن أستبق تساؤلكم بشأنه هو مسألة حرية العقيدة وممارسة الشعائر للأديان الأخرى في المملكة، وموقف الشريعة الإسلامية في هذا واضح وقاطع، ويتمثل في ثلاثة مبادئ هي:
المبدأ الأول: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
المبدأ الثاني: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
المبدأ الثالث: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهُِ}.
وهذا المبدأ يجعل إيمان المسلم لا يكتمل إلا بالإيمان بكافة رسل الله وكافة كتبه بلا تفرقة أو تمييز.
لماذا إذاً لا تسمح المملكة بإقامة دور عبادة لغير المسلمين في أرضها؟ تساؤلكم هذا مشروع وإجابتي عنه هي أننا نعتقد أن الإسلام هو خاتم الأديان، وأن المملكة هي منبع الإسلام والأرض التي كرمها الله بأن تكون مقر الحرمين الشريفين ومثوى خاتم رسله، وقبلة مليار ونصف مليار مسلم، لذا فإن الخصوصيات تجعلنا نرى أنه من الصعب إقامة دور عبادة في الأرض المقدسة، ومع ذلك فإن حرية العبادة مكفولة تماماً لغير المسلمين في المملكة ويمكنهم أن يمارسوا شعائر أديانهم في أماكنهم الخاصة.
إن هذا لا يعكس أي إقلال من حرية العقيدة لغير المسلمين في المملكة ولا يمثل أي ممارسة لعدم احترام عقائد الآخرين.
كما أنه ليس هناك دعوة لمناقشة هذا الأمر من منظور التشريعات البشرية الوضعية فالدين اعتقاد قلبي قبل أن يكون دليلاً عقلياً وهذا هو اعتقادنا الذي نتوقع من الآخرين احترامه وليس مناقشته كما أننا نحترم معتقداتهم ولا نناقشها.
وقال: إن النظر إلى الديانات الأخرى القائم على الاحترام مع الاختلاف أو الاختلاف مع الاحترام كان الأساس الفكري والعقائدي لمبادرة خادم الحرمين الشريفين للحوار بين أتباع الديانات والثقافات والتي تتسم بأنها موجهة للعالم دون استثناء وليست مقيدة بأي قيد، ومن أهداف هذه المبادرة:
- الفهم المتبادل بين أتباع الأديان والثقافات السائدة في العالم.
- الإفادة مما لهذه الثقافات من خصوصيات تثري الحياة الإنسانية من منطلق أن حضارة البشر واحدة، وأنها سبيل لتلافي جميع النزاعات والخلافات المؤدية إلى العنف والصراع بين البشر.
- التأكيد على أهمية القواسم البشرية واستثمارها في كل ما ينمي حضارة الإنسان ويهيئ لانسجام وسلام عالمي.
ولهذه المبادرة بعدٌ إنساني يتجلى من خلال التركيز على القواسم الإنسانية المشتركة بين أتباع الأديان والثقافات باعتبارها أحد الأسس المهمة في بناء العلاقات الإنسانية، إذْ تشترك جميع الأديان والثقافات في الدعوة إلى الخير بكافة أشكاله وصوره (كالعدل، والتسامح، والرحمة، وحماية الضعيف، والإحسان، والتعايش السلمي)، ونبذ الشر بكافة صوره (كالظلم، والعنف، والتعدي على الآخرين).
وإنني من منطلق هذه المعادلة (الاختلاف مع الاحترام) أود أن أعبر عن القلق الذي يساور الكثيرين ممن يهتمون بمستقبل واعد للبشرية لاستمرار الإخلال بهذه المعادلة الواضحة والبسيطة والضرورية في كثير من دول العالم ولا أستثني من ذلك أحداً، ولأنني أعتقد أن عدم التسامح هو آفة إنسانية عالمية، رغم أن حقوق الإنسان ذاتها هي مبادئ إنسانية عالمية، ويمتد هذا القلق إلى ما حذَّر منه الميثاق التأسيسي لمنظمة (اليونيسكو)، حيث قال: (لما كان السلم المبني على مجرد الاتفاقات الاقتصادية والسياسية بين الحكومات لا يقوى على دفع الشعوب إلى الالتزام به التزاماً اجتماعياً ثابتاً مخلصاً، كان من المحتَّم بالتالي أن يقوم هذا السلم على أساس من التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر) أهـ.
إن التضامن الفكري والمعنوي الذي يجب أن يقوم عليه السلم قد دعا إليه ديننا الحنيف في آيةً توضح أبعاد هذا التقارب والتضامن على أساس من الاحترام لأنبياء الله ورسله واحترام ما جاؤوا به من قيم هي الأساس الحقيقي لهذا التضامن الفكري والمعنوي الذي نحن في أشد الحاجة إليه، فقد قال الله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (136) سورة البقرة.
وفي هذا الصدد، فإننا نقدر مبادرة مفوضية حقوق الإنسان بعقد ندوة حول (حرية التعبير والحض على الكراهية الدينية) في شهر أكتوبر2007م، ونطالب بأن يكون هناك خطوات عملية لاحقة لهذه الندوة، وهذه الندوة أبرزت أن حرية التعبير لا تشمل الحض على الكراهية الدينية أو العرقية وأننا بصدد مشكلة تفسير، أدَّت إلى تنازع حقوق، هذا يحتاج لتوضيح وبحث من أجل تعزيز تطبيق المادة (20) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بشأن حضر الحض على الكراهية الدينية أو العرقية دونما أي إخلال بالمادة (19) من ذات العهد والخاصة بحرية التعبير.